جريمة الراشي مستقلة عن جريمة المرتشي بحيث يمكن عملا بالمادة 251 ق ج أن يدان الراشي وحده أو يبرأ باستقلال تام عن الموظف- أو من في حكمه- الذي قد يتابع ويدان بالارتشاء، وسبب ذلك كما أشرنا إليه سابقا يكمن في كون المشرع المغربي نظرا إلى جريمة المرتشي بكيفية مستقلة عن جريمة الراشي.
وهذا وإذا كان النص السابق يركز بكيفية ظاهرة على الركن المادي لجريمة الراشي دون الركن المعنوي لها فإن ذلك لا يعني قطعا اعتبار هذه الجريمة “جريمة غير عمدية” لأن القصد الجنائي فيها متطلب لكونها من الجنح التي لا يعاقب عن إثباتها خطأ أبدا.
وبخصوص أركان هذه الجريمة فسنركز في نطاقها على الركن المادي، باعتبار أن الركن المعنوي فيها- كما هو الحال في جريمة المرتشي- قوامه القصد الجنائي لدى الراشي.
المطلب الأول: الركن المادي
استنادا إلى النص السابق، فإن الركن المادي في هذه الجريمة يتخذ صورا ثلاث، استعمال العنف أو التهديد، تقديم الوعد أو العرض – والاستجابة لطلب الرشوة.
الفقرة الأولى: استعمال العنف أو التهديد
والمقصود به توليد حالة إكراه عند الموظف الغاية منها دفعه إلى مخالفة واجبات وظيفته، ونحو ذلك مسكه من يده من أجل توقيع رخصة أو تهديده باغتصاب زوجته أو ابنته إن هو لم يوافق على الترخيص… الخ.
والمشرع في المادة السابقة لم يقم بتحديد وسائل العنف أو التهديد ولا درجتها، ولذلك فإن هذه الصورة من صور الركن المادي في جريمة الراشي تقوم بعض النظر عن طبيعة الإكراه المستعمل على الموظف بغرض إكراهه على القيام بعمل أو الامتناع عن عمل يدخل في إطار وظيفته ماديا كان هذا الإكراه أو معنويا، ويترتب عن ذلك أنه إذا كان الإكراه على القيام بعمل – أو الامتناع عنه- لا يدخل في اختصاصه فالجريمة لا تقوم ونحو ذلك تهديد برلماني بعدم مساعدته في الانتخابات المقبلة إن هو لم يتوسط لديه عند وزير النقل مثلا بقصد الحصول على رخصة نقل على الطرقات فالإكراه في هذه الحالة الأخيرة لا علاقة له بالوظيفة الموكولة بالبرلماني.
ومهما يكن فالواضح مما كتبنا أعلاه أن الإكراه بالتهديد لابد أن يكون بأمر مشرع كقتل الزوجة أو الطفل أو إحراق زرع…الخ، أما إذا كانت هذا التهديد بأمر مشروع لكل الناس الالتجاء إليه كاشتكاء الموظف أمام رؤسائه، أو مطالبة المجلس الأعلى بإلغاء قراره للشطط في استعمال السلطة، إن هو لم يتراجع عنه فلا يقوم صورة من صور الركن المادي في هذه الجريمة.
وختاما نود الإشارة إلى أن هذه الصورة من صور الركن المادي في الجريمة محل البحث، إذا كانت تستدعي ملاحظة فلا أفضل من القول بأن مكان العقاب عنها ليس جريمة الراشي التي تبدو أنها أقحمت فيها إقحاما، إذ كان من الأليق إدراجها ضمن البحث المخصص لعقاب “الجنايات والجنح التي يرتكبها الأفراد ضد النظام العام” ( )، ذلك أن استعمال الإكراه من طرف أي كان من أجل إجبار الموظف على القيـام بالعمل أو الامتناع عنـه لا علاقة له إطلاقا بالـرشوة على اعتبار أن فعل الارتشاء من جانب الموظف العام، أو من حكمه هو استغلال لوظيفته واتجار فيها، وجني للربح من عمل – أو امتناع- كان عليه واجب القيام به بدون تلقي أي مقابل، ومن جانب الراشي هو تشجيع للموظف العام بالإغراء، وليس بالوعد أو الوعيد – أو الإكراه عموما- على جعل وظيفته تجارة تدر عليه أرباحا بسبب ما يقدمه الراشي له من مقابل وبذلك فإذا هو الموظف أكره على القيام بعمل أو بالامتناع عنه إكراها ماديا (بالعنف الفعلي) أو معنويا (بالتهديد) فإنه في هذه الحالة إذا هو نفذ بالفعل ما طلب منه فلا يعد أبدا مرتشيا لسقوط الجريمة عنه من جهة ولانتفاء أي اتجار من جانبه بالوظيفة العامة من جهة أخرى( ).
الفقرة الثانية: الاستجابة لطلب الرشوة
في هذه الصورة من صور الركن المادي لجريمة الراشي لا يقوم هذا الأخير –أي صاحب الحاجة- بعرض الرشوة من نقود، أو مقابل من أي نوع كان، ولكن الموظف الذي سيقوم له بعمل أو امتناع هو الذي يطلبها منه، فيقبل ذلك منه مختارا وعلى بينة من الأمر، فيعتبر والحالة هذه مرتكبا لجريمة الراشي لأنه بسلوكه الشائن قد ساعد، إن لم نقل حرض- الموظف على الإخلال بواجبات المهنية ودفعه ولو بطريق سلبي، إلى الاتجار بوظيفته التي ينبغي عدم جعلها مطية للكسب الحرام، وضرب الثقة العامة في الصميم.
إنما ينبغي مع ذلك التلميح، وكما تقدم، إلى أن يكون هذا الخضوع لطلب الموظف قد جاء عن علم بطبيعة المقابل المطلوب الذي يتعين أن يكون غير واجب عليه، أما إذا هو وقع في غلط في هذه الطبيعة كأن اعتقد بأنها ضريبة تتقاضاها المصلحة العمومية التي ينتمي إليها الموظف وأداها مدفوعا بهذا الغلط، فإنه لا يعتبر مرتكبا لجريمة الراشي خلافا للموظف الذي يعتبر مرتكبا لجريمة أخرى هي جريمة الغدر( ).
الفقرة الثالثة: تقديم وعد أو عرض
هذه الصور من صور الركن المادي تقوم على إغراء الموظف على الاتجار بالوظيفة المسندة إليه ودفعه إلى طريق الجريمة، ولذلك كان مجرد تقديم الوعد أو العرض كافيا بذاته لقيام الجريمة في جانب الراشي بغض النظر عن قبول الموظف المختص بالعمل أو الامتناع للوعد (كوعد بإسكانه في إحدى شقق عمارته، أو التحدث له مع مسؤول من أجل ترقيته أو وعده بمبلغ مالي يخرجه من عسرته…) أو العرض (كوضع ظرف يحتوي مبلغا من المال في درج مكتبه مباشرة، أو إعطاء مبلغ من النقود لوالدته أو زوجته…الخ) أو رفضه له، ومع ذلك ينبغي التنبيه إلى أن تقديم العرض من طرف صاحب الحاجة يجب أن يكون جادا فيه أما إن هو أراد فقط كشف الموظف أمام رجال الشرطة بقصد ضبطه متلبسا بجريمته فإنه لا يعد والحالة هذه راشيا تحقق الركن المادي في حقه( ).
المطلب الثاني: الركن المعنوي
جريمة الراشي- كجريمة المرتشي- جريمة عمدية قوامها القصد الجنائي بعنصرية الأساسيين: العلم و الإرادة، فيجب أن يكون الراشي عالما بأنه يتجه بفعله إلى موظف عمومي، أو من في حكمه، لكي يجبره على القيام بعمل أو الامتناع عنه يغريه به من خلال تقديم وعد أو عرض… أو يستجيب لطلبه مع علمه بطبيعة هذا الطلب.
كما يجب أن تتجه إرادته إلى تحقيق الفعل المادي وإحداث النتيجة المترتبة عنه، حتى ولو لم تتحقق بالفعل، وإذا انتفى أحد هذين العنصرين انتفى القصد الجنائي وبالتالي الجريمة (