النقيب عبد الله درميش
هيئة المحامين بالدار البيضاء

مقدمة :
لا ادعي انني احسن الكلام او اتقن فن الحديث في عقد الشغل وما يترتبه من اثار، فانا لا احسن السباحة في بحره، خصوصا وانا امام ثلة من رجال القانون والحقوقيين من المستوى الرفيع تلتئم لتناقش وتبادل الراي حول موضوع قديم وحديث وهو قانون الشغل .
واذا كان يقال ان المناسبة شرط فما هي الدواعي لاقتحام هذا الموضوع الذي قد يبدو للبعض انه موضوع مستهلك ؟

ارتفعت شعارات وتعددت الثقافات وتغيرت المفاهيم، فالاجير لم يعد يراد له ان يوصف بالطرف الضعيف امام اتجاه حماية المقاولة والرغبة في احداث توازن حقيقي بين المشغل والاجير كفتان متساويتان اذن .
حقا، ان السياسة التشريعية لقانون الشغل تغيرت هي الاخرى واضطر المشرع المغربي ان يغير سياسته تحت وطاة اكراهات العولمة التي وجب علينا ان نحاول حجز مقصورة في قطارها مضطرين لا مختارين .
وهكذا يلاحظ ان مدونة التجارة كان من بين همومها معالجة وانقاذ المقاولة التي تكون غالبا مؤاجرا، دون اغفال الاهتمام بالاجير وحقوقه ( من المواد 545 الى 732 ) فضلا على قوانين الشركات .
لذلك حق لنا ان نقول بان المشرع المغربي كان بالفعل قد اهتم بحماية الاجير سواء في قوانين التنظيم القضائي للمملكة وقوانين الاجراءات وقوانين الموضوع
____________
* ساهمت بهذه المداخلة في الندوة التي عقدها المعهد الوطني للدراسات القضائية ( الفوج 29 ) في اطار ندوات التكوين في موضوع " انهاء العلاقة الشغلية والاثار المترتبة عنه" - 13 يوليوز 2000 .
------------------
اذ اعتمد المرونة، وقلب قواعد الاثبات وشدد على المشغل وسار القضاء وجهة مشرعه وطبق سياسته .
الا انه، الان، وبعد ان تغيرت المفاهيم وجب اعادة النظر في الامور حسب التوجهات وفي غمار التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .

وفي خصم كل هذه الحمولات ما هو دور قضاء التحيكم لتفعيل القواعد القانونية التي اريد لها ان تسير في اتجاه معاكس للاتجاه المالوف؟ وهل قضاء التحكيم من صلاحياته ان يبت في نزاعات الشغل ؟ وهل يحق لاطراف ذوي العلاقة ادراج شرط التحكيم في عقد الشغل ؟ اسئلة وجب الان طرحها على بساط النقاش .

وقبل ذلك وجب ان نعطي تعريفا للتحكيم وبيان اهميته والاسس التي يقوم عليها ( فقرة 1)، وبعد ذلك هل يجوز للاطراف الالتجاء الى التحكيم لفض منازعاتهم المترتبة عن عقد الشغل ؟ ( فقرة 2) .

الفقرة الاولى :
التعريف بالتحكيم ومزياه والاسس التي يقوم عليها
1) دون استعراض لمختلف التعريفات التي اعطاها الفقه للتحكيم - لان لكل مقام مقال - نميل الى تعريف اعطاه روبير ومحسن شقيق للتحكيم بقولهما "بانه نظام للقضاء الخاص تقصى فيه خصومة معينة من اختصاص القضاء العادي، ويعهد بها الى اشخاص يختارون للفصل فيها" .

هذا فان ارادة الاطراف هي التي تخلق نظام التحكيم ولكن المشرع كان دائما من وراء دعم تلك الارادة فهو يقرها ويجيزها ويبث فيها الحركة والروح كما فعل المشرع المغربي في الفصول من 306 الى 327 مع ادخال الغاية من ق م م .

ويقصد بالتحكيم في ورقتنا هاته التحكيم الاختياري المبني على مبدا سلطان الارادة مستبعدين من الكلام التحكيم الاجباري المفروض تشريعيا كما هو الحال بالنسبة للتحكيم المنصوص عليه في ظهير 19 يناير 1946
( كما وقع تغييره) الذي نص وجوبا على اخضاع النزاع الجماعي لمسطرة المصالحة والتحكيم وفي حوادث الشغل، كالفصل 207 من ظهير 25 يونيو 1927 المعدل من الناحية الشكلية بظهير 1963 الذي اوجب عرض النزاع المتعلق بالتقارير الطبية والجراحية او الصيدلية فيما يخص حوادث الشغل لزوما على لجنة المراقبة والتحكيم، والمادة 28 من قانون مهنة المحاماة (1993) وقانون 94/21 المتعلق بنظام الصحفيين المهنيين الصادر بتاريخ 22/2/1995 .
وامام الانفتاح ونمو وتزايد العلاقات الدولية الخاصة لابد من الاشارة الى ميثاق الاستثمار لسنة 1995 الذي اجاز التحكيم في المادة 17 منه، وكذا الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب او ابرمها سواء الاتفاقيات المتعددة الاطراف كاتفاقية نيويورك 1958 بشان الاعتراف بالمقررات التحكيمية وتنفيذها، واتفاقية واشنطن 1965 لتسوية المنازعات الاستثمارية بين الدول، ومواطني الدول الاخرى التي تحيل عليها الاتفاقيات الاخيرة التي عقدها المغرب مع كثير من الدول مؤخرا، او الاتفاقيات الثنائية وهي عديدة وكثيرة .

2) اما مزايا التحكيم، فهي كثيرة الى ان قال فيه ارسطو : " ان اطراف النزاع يستطيعون تفضيل التحكيم على القضاء لان المحكم يرى العدالة بينما لا يعتد القاضي الا بالتشريع" .
فالتحكيم اجمالا يفصل في الخصومة بسرعة وفي وقت قصير فتنتهي المنازعة دون ان تسود العلاقات التجارية او يتعكر صفوها، ويتم ذلك في اطار من الكتمان والسرية والمرونة، والخبرة الفنية، وعدم التقيد عادة بقواعد المرافعات، وبقانون الشكل، الذي يكون احيانا سببا في ضياع الحقوق، ويتناسب التحكيم مع الظروف الخاصة لاطراف الخصومة اذ يتم الاتفاق على عقد جلسات مع اوقات وامكنة تتناسب والتزاماتهم، وهو الاكثر فعالية لانه يخول الاطراف اختيار المحكم الاكثر كفاءة والذي يتسم بخصال حميدة وسلوك حسن بعيدا عن كل شبهة مستقل ومحايد، كما تكمن فعاليته في كون الاطراف يختارون القانون الواجب التطبيق سواء في الشكل او الجوهر .

لكن اذا اردنا ان يكون التحكيم فعالا ومجديا فانه يتعين اختيار محكم قدير كما هو الحال بالنسبة للمنافسات الرياضية التي تفقد متعتها ونكهتها بسبب سوء التحكيم .
ولهذه المزايا فاذا كان قضاء التحكيم في العلاقات الداخلية قضاء استثنائيا من القضاء العادي فانه بالنسبة للعلاقات الدولية الخاصة فهو قضاء أصيل : اذ لا تكاد الاتفاقيات المتعلقة بالتجارة الدولية وبالاستثمارات الأجنبية ان تخلو من شرط تحكيم والأسباب كثيرة ولا داعي للوقوف عليها .

3) اما عن الاسس التي يقوم عليها التحكيم فهو مؤسسة اختيارية يلجا إليها بمحض إرادة الأطراف كما يجوز لهم العدول عنه في أية مرحلة وصلت إليها القضية، ومؤسسة قضائية تستوجب ان يكون هناك نزاع بين الأطراف ( الفصل 308 م م ) ويتعين على المحكم كالقاضي ان يحرر الحكم ويضمنه بيانات لادعاءات الأطراف ونقط النزاع والمنطوق الذي بت بمقتضاه والتوقيع وهوية الأطراف وتاريخ ومحل إصداره ( ف 318 م م) .

ومن الأسس، أيضا، ضرورة الاتفاق على التحكيم في محرر مكتوب (307) ويجوز ان يتم هذا الاتفاق سواء قبل نشوب النزاع او بعده (309) وان الحكم التحكيمي لا يقبل الطعن بالتعرض او الاستئناف او النقض ولا يمكن إبطاله عن طريق دعوى البطلان (319) إلا ان الحكم التحكيمي يمكن ان يكون موضوع إعادة النظر وتعرض الغير الخارج عن الخصومة ولا يكون الحكم التحكيمي قابلا للتنفيذ بحد ذاته بل لابد من تذييله بالصيغة التنفيذية باسم سيادة الدولة، وتطبق على الحكم التحكيمي قاعدة نسبية الحكم القضائي، واخيرا فان الاتفاق على التحكيم لا يمنع اللجوء الى قاضي المستعجلات .

الفقرة الثانية
هل يجوز للأطراف الالتجاء الى التحكيم
لفض منازعاتهم المترتبة عن عقد الشغل
سؤال ملح وله عدة تداعيات خصوصا في سباق تشريعنا المغربي الذي لم يحسم الأمر كما فعلت بعض التشريعات الأخرى وأيضا أمام لجوء بعض أطراف العلاقة الشغيلة الى التحكيم لاستصدار أحكام تحكيمية للتهرب من بعض الجبايات التي تستخلصها خزينة الدولة عن الأجور او التعويضات التي تمنح للأجراء، اذ ان بعض المقاولات في اطار إعادة هيكلتها ولتصحيح أوضاعها غدت تستغني عن أجرائها ومستخدميها وأطرها مقابل منحهم تعويضات متفق عليها عن طريق شرط التحكيم وبعده الحكم التحكيمي ويقع التملص من تلك الواجبات التي تصل أحيانا الى نسبة 44 % (1) من المبلغ المتفق عليه مما يلحق بخزينة الدولة خسارة كبرى.
ان هذا السؤال لم يسبق ان طرح من قبل مما جعل الفقه لم يتناوله بالبحث والتدقيق الا انه في اطار التفاعلات الجديدة والمتغيرات اصبح يفرض نفسه وينتظر منا الجواب .
-------------------------
1) في حالة التراضي والتوافق بين الطرفين على تعويضات الإعفاء دون اللجوء الى القضاء :
إذا حدد التعويض وفق الأحكام المقررة في المادة الأولى من المرسوم الملكي رقم 316.66 الصادر بتاريخ 14/8/1967 يعفى المبلغ المؤدى للأجير من الضريبة العامة على الدخل .
اما إذا تجاوز مبلغ التعويض الحدود المقررة في المادة المذكورة أعلاه، فان المبلغ الزائد يخضع للضريبة العامة على الدخل .
ويحتسب مبلغ الضريبة طبقا لمقتضيات المادة 94 من قانون الضريبة العامة على الدخل على النحو التالي :
من 1 الى 24.000.00 معفى
من 24.001.00 الى 36.000.00 21 %
من 36.001.00 الى 60.000.00 35 %
ما زاد عن 60.000.00 44 %
وفي حالة ما اذا اغفل المشغل اقتطاع مبلغ الضريبة العامة على الدخل يبقى مسؤولا عليها شخصيا ازاء إدارة الضرائب مع ما يترتب عن ذلك من غرامات وذعائر، وذلك الى غاية 31 دجنبر من السنة الرابعة التالية للسنة التي تم خلالها تسديد مبلغ التعويض ( الفصل 113 من قانون الضريبة العامة على الدخل ) .
وتجدر الإشارة الى ان المشرع لم ينص صراحة على إخضاع مبلغ التعويض الزائد عن الحدود المقررة في الفصل الاول من المرسوم الملكي المذكور، وانما يستنتج ذلك بمفهوم مخالفة الفصل 66 من قانون الضريبة العامة على الدخل الذي ينص في فقرته السابعة على ما يلي : تعفى من الضريبة العامة على الدخل التعويضات عن الفصل من العمل ضمن الحدود المقررة في النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل وجميع التعويضات عن الضرر التي تحكم بها المحاكم في حالة فصل من العمل .
في حالة اللجوء الى القضاء لا تكون التعويضات عن الضرر المحكوم بها نهائيا لفائدة الاجير معفاة من الضريبة العامة على الدخل بصريح نص الفقرة 7 من الفصل 66 من القانون المشار اليه اعلاه .
-------------------------
باستقراء تشريعنا، وبصفة خاصة، الفصل 306 من ق م م. فان هذا الفصل يقر قاعدة عامة وهي جواز التحكيم في كل الحقوق التي يملك الشخص التصرف فيها سواء كانت حقوقا مدنية بالمفهوم الواسع ام تجارية وان المشرع استطرد واتى باستثناءات مذكورة على سبيل الحصر جعلها من الممنوعات في التحكيم ولا يجوز التوسع بشانها لانها استثناء على استثناء .

وبالرجوع الى هذه الاستثناءات فاننا لا نجد الحقوق المترتبة عن عقد الشغل، بمعنى ان المشرع لم يستثن من القاعدة العامة النزاعات المتعلقة بعلاقات الشغل .
وكما هو معلوم فان عقد الشغل عمل مدني - غالبا - وهذا العمل - في تشريعنا - يقبل الخضوع للتحكيم كما هو الشان بالنسبة للاعمال التجارية او الاعمال المختلطة كما يجوز في الاعمال التجارية التبعية وهي الاعمال المدنية بطبيعتها التي تنتقل الى اعمال تجارية بالتبعية .

كما نستحضر قاعدة كرستها بعض التشريعات في مجال التحكيم كالمشرع المصري مفادها عدم جواز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، وبمفهوم المخالفة فان كل الحقوق القابلة للصلح تكون ايضا قابلة للتحكيم وهذه القاعدة لم ترد في تشريعنا صراحة لكن يمكن استنباطها من اجراء مقارنة بين المقتضيات التي تناولت المسائل التي يمكن ان تكون موضوع صلح والتي وردت في الفصل 1100 من ق ل ع وما يليه، وبين المسائل التي اشار اليها الفصل 306 من ق م م مما يستنتج معه ويستخلص امكانية تطبيق هذه القاعدة عندنا وبما ان المشرع المغربي يقر جواز الصلح في حقوق الاجير ولا يمنع ذلك صراحة فاننا نقول بجواز التحكيم في كل ما تعلق بنزاعات الشغل سواء عند قيام الشغل او عند انتهائه، على عكس بعض الدول التي تفرق بين اتفاق التحكيم اثناء قيام علاقة الشغل وتمنعه، وبين اتفاق التحكيم عند انتهاء عقد الشغل وتجيزه .

ورب قائل يقول بعدم جواز التحكيم في نزاعات الشغل لملامستها للنظام العام كما ينص على ذلك الفصل 306 من ق م م .
فكرة النظام العام - وقد قيل في شانها الكثير - فهي فكرة زئبقية وابن عاق للقانون الدولي الخاص وشبهت الفكرة بالرمال المتحركة التي تفقد من يخوض فيها السيطرة والاتجاه .

هذه الفكرة يجب ان لا تكون عائقا او قيدا على التحكيم ويتعين عدم الخلط بين القواعد الامرة وبين النظام العام الذي هو المساس بمقومات وكيان واسس الدولة الدينية والاقتصادية والسياسية، بمعنى عدم المساس بالمصلحة العليا للدولة .
وبرجوعنا الى تشريعنا الوطني فاننا لا نجد ما يمكن الاستناد عليه لاقصاء نزاعات الشغل في مجال التحكيم باسم النظام العام بل العكس هو الصحيح، اذ بقراءتنا للفصل 9 من ق م م فاننا لا نجد ضمن حالاته الثمانية القضايا المتعلقة بنزاعات الشغل ولو اراد المشرع ذلك لما اغفلها وهو الذي وضع في نفس الوقت قواعد خاصة بالمسطرة في القضايا الاجتماعية واجاز ضمن هذه القواعد في الفقرة الاخيرة من الفصل 270 م م. مخالفة قاعدة تتعلق بالتنظيم القضائي وهي امكانية المحكمة من البت دون مشاركة المستشارين اذا كان عددهم غير كاف .

وعليه فاننا لا نرى في اللجوء الى التحكيم لفض النزاعات الناشئة عن عقد العمل بين المشغل والاجير اي مساس بالسياسة الاقتصادية للدولة، او النيل من القواعد الحمائية للاجير وهو ما اكده بعض القضاء (1) .
لكن بقي ان نشير ان هذا الاتجاه يعرف استثناء قويا تقتضي المناسبة الوقوف عنده لعدم استقرار الراي بشانه وهو المتعلق بالمقاولة التي تكون طرفا مشغلا وتسقط في صعوبة من الصعوبات التي تناولتها مدونة التجارة فهل تبقى لهذه المقاولة الاهلية للجوء الى التحكيم في النزاعات التي تنشب بينها وبين اجرائها ؟