مداخلة النقيب عبد الرحمن بن عمرو حول استقلال القضاء بين التشريع والواقع.
نطاق المداخلة :
سأتناول في هذه المداخلة المسائل الآتية :
* مفهوم استقلال القضاء .
* الهدف من استقلال القضاء .
* مشمولات القضاء المستقل .
* النصوص الحامية لاستقلال القضاء .
* علاقة استقلال القضاء باستقلال مساعديه .
* عراقيل قانونية وواقعية تحول دون استقلال القضاء استقلالا حقيقيا وكاملا .
* متطلبات تحقيق الاستقلال القضائي في التشريع وفي الواقع .
مفهوم استقلال القضاء :
يقصد باستقلال القضاء ، عدم جواز التدخل والتأثير من قبل الغير على ما يصدر عنه من إجراءات وقرارات وأحكام .
والتدخل والتأثير مرفوض سواء كان ماديا أو معنويا وسواء تم بكيفية مباشرة أو غير مباشرة ، وبأية وسيلة من الوسائل .
ويدخل في نطاق الممنوع من التدخل ، السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ، وغيرهما من أشخاص القانون العام والخاص ، كما يدخل في نطاقه الرؤساء الإداريون للقضاة وأطراف الدعوى …
ويقتضي استقلال القضاء من جهة أخرى وجوب امتناع القضاة من الاستجابة أو القبول أو الخضوع لأي تدخل أو تأثير .
وتبعا لذلك فإن القضاة لا يمكن أن يستجيبوا ويخضعوا إلا لصوت القانون والضمير .
الهدف من استقلال القضاء :
الهدف من استقلال القضاء ومن حماية هذا الاستقلال هو تحقيق العدالة التي لا يمكن أن تتحقق في غياب أحد مقوماتها الأساسية وهو استقلال القضاة وحماية هذا الاستقلال من أي تدخل وتأثير …
مشمولات القضاء المستقل :
إن استقلال القضاء وحمايته يشمل استقلال قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة ، كما يشمل السـلـــك القضائي القضاة الذين يمارسون مهامهم بالإدارة المركزية بوزارة العدل ويستنتج ذلك من مقتضيات الدستور ( الفصل 82 ) ، ومن مقتضيات النظام الأساسي للقضاة ( الفصل 1 ) .
ويبرر استقلال النيابة العامة وحماية هذا الاستقلال ، كون النيابة العامة تختص ، من بين ما تختص فيه ، الأمر بإجراء الأبحاث في الجرائم المرتكبة ، وتقرير المتابعات ، وتقديم الملتمسات للمحكمة وتنفيذ قرارات وأحكام هذه الأخيرة ، وإذا اقتضى الأمر الطعن فيها ، ومن شأن استقلال النيابة العامة في ممارسة الاختصاصات المذكورة أن يبعد هذه الممارسة عن كافة أنواع التدخل والتأثير بما يحقق العدالة التي تتجلى من بين ما تتجلى في عدم الإفلات من العقاب بالنسبة لمن يستحقه وفي عدم متابعة ومعاقبة من لا يستحق المتابعة و العقاب …
واستقلال القضاة الذين يمارسون مهامهم بوزارة العدل يكون ضروريا ومبررا عندما تستند لهم مهمة تفتيش المحاكم أو البحث في وقائع محددة طبقا للفصل 13 من التنظيم القضائي …
النصوص المتعلقة بحماية استقلال القضاء :
من بين النصوص القانونية الحامية لاستقلال القضاء هي :
على المستوى الدستوري :
يتضمن الدستور عدة مقتضيات تنص على استقلال القضاء وتساهم ، في حدود معينة ، في حماية هذا الاستقلال .
فالفصول 82 و 85 و 86 و 87 من الدستور تنص على أن القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية ، ولا يعزل قضاة الأحكام و لا ينقلون إلا بمقتضى القانون ، وان المجلس الأعلى للقضاء ، الذي يتألف أغلبية أعضائه من قضاة منتخبين ، هو الذي يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة فيما يرجع لترقيتهم وتأديبهم .
وحسب النظام الأساسي للقضاة ( الفصل 69 ) فإنه "لا يمكن ترقية القضاة المنتخبين بالمجلس الأعلى للقضاء من درجة لأخرى ولا نقلهم ولا انتدابهم مدة انتخابهم" .ويرمي هذا الفصل إلى حماية استقلال القضاء عن طريق حماية استقلال الممثلين لهم في المجلس الأعلى للقضاء من كافة التأثيرات المادية والمعنوية …
وعلى مستوى القانون الجنائي ، فإنه طبقا للفقرة الأولى من الفصل 266 ج فإنه يعاقب على : " الأفعال أو الأقوال أو الكتابات العلنية ، التي يقصد منها التأثير على قرارات رجال القضاء ، قبل صدور الحكم غير القابل للطعن في قضية ما ."
ويمكن اعتبار المس باختصاص القضاء نوعا من المس باستقلاله ، الامر الذي ينتج عنه أن المعاقبة على المس باختصاص القضاء كأنها معاقبة على المس باستقلاله . ومن المعلوم أن الفصل 239 ج يعاقب كل عامل أو قائد ممتاز أو قائد أو أي حاكم إداري آخر فصل في مسألة من اختصاص المحاكم وذلك في غير الحالات التي ينص عليها القانون ، ورغم معارضة الخصوم أو أحدهم .
على مستوى المسطرة الجنائية :
فإننا نرى ، بأن ما يطلق عليه " الامتياز القضائي" الذي يتمتع به القضاة ، وفق الفصول من 264 إلى 267 م ج ، التي تتضمن مقتضيات استثنائية خاصة بالبحث والتحقيق والمتابعة والمحاكمة ، الهدف منه ( من هذا الامتياز ) هو حماية استقلال القضاء .
علاقة استقلال القضاء باستقلال مساعديه :
لا يكفي تحقيق الاستقلال القضائي كعامل من العوامل المهمة في تحقيق العدالة وإنما يجب ، بالإضافة إلى ذلك ، يمتد هذا الاستقلال إلى مساعدي القضاة : ذلك أن هؤلاء الأخيرين ( القضاة )، إنما يتخذون القرارات ويصدرون الأحكام بناء على وثائق وإجراءات يساهم في إعدادها :
في النطاق الجنائي :
- ضباط الشرطة القضائية على مستوى البحث التمهيدي .
- قضاة التحقيق : على مستوى التحقيق الإعدادي .
- المحامون
- الخبراء
- التراجمة
- كتاب الضبط
إن كل هؤلاء المساعدين للقضاة والذين يساهمون في صنع ما يصدر عنهم من إجراءات وقرارات ، يجب أن ينص دستوريا عن استقلالهم عن الغير ، كما هو الأمر بالنسبة لقضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة ، وعلى حماية هذا الاستقلال الذي بدونه سيمس ويتأثر سلبيا استقلال القضاة .
عراقيل قانونية وواقعية تحول دون استقلال القضاء استقلالا حقيقيا وكاملا :
إن النصوص القانونية الحالية ، الدستورية منها وغير الدستورية والتي استعرضناها غير كافية لحماية استقلال القضاء ، إذ أن هناك نصوصا قانونية متفرقة تفتح ثغرات واسعة تمكن السلطة التنفيذية على الخصوص من المساس باستقلال القضاء .
ومن جهة أخرى لا تكفي الحماية القانونية عبر النصوص بل يجب احترام هذه النصوص وعدم خرقها ، وفي حالة خرقها يجب إنزال العقاب المدني ( جبر الضرر ) والتأديبي وإذا اقتضى الأمر الجنائي …
ونستعرض فيما يلي العراقيل القانونية والعراقيل الواقعية .
أ – العراقيل القانونية :
لقد سن النظام السياسي المغربي عدة نصوص قانونية لا يمكن إلا أن تمس باستقلال القضاء وتفرغ الفصل 82 من الدستور من محتواه وخاصة في علاقة القضاء بالسلطة التنفيذية ( الملك كسلطة تشريعية في حالات معينة وتنفيذية ، ووزير العدل كسلطة تنفيذية ) ، إذ أعطى لهذه الأخيرة عدة منافذ قانونية للتأثير على القضاء وتوجيهه . ومن بين هذه المنافذ :
على مستوى السلطة الملكية :
إن الملك يرأس المجلس الأعلى للقضاء المختص بترقية القضاة و تأديبهم ( ف 86 و 87 ) .
والملك على مستوى التعيين ، يعين القضاة بالإدارة المركزية لوزارة العدل بظهير باقتراح من وزير العدل( الفصل 1 من النظام الأساسي للقضاة ن أ ق )، كما يعين الملحقين القضائيين الناجحين في الامتحان بظهير يصدر باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء قضاة في الرتبة الأولى من الدرجة الثالثة . ( ف 7 من ن أ ق ) . وفيما يخص التأديب فإن العقوبة من الدرجة الثانية ( التدحرج على التقاعد – الإقصاء المؤقت – الإحالة على التقاعد – العزل ) تصدر بظهير بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء . ومن المعلوم أن الظهائر الملكية ، غير قابلة لأي طعن قضائي حتى ولو كانت ذات طبيعة إدارية حسب ما ذهب المجلس الأعلى في عدة قرارات له صادرة في هذا الخصوص ومنها القرار الإداري عدد 15 الصادر في 20/3/ 1970 والذي قضى بعدم اختصاصه للبث في الطلب الرامي إلى إلغاء مرسوم ملكي صادر في 11 / 6 / 68 ، معللا قراره بما يلي : " وحيث إن جلالة الملك يمارس اختصاصاته الدستورية بوصفه أمير المؤمنين طبقا للفصل 19 من الدستور ، لا يمكن اعتباره سلطة إدارية بالنسبة لتطبيق الفصل الأول من ظهير 27 شتنبر 1957 ."
وعلى مستوى وزير العدل : فإن هذا الأخير يرأس المجلس الأعلى للقضاء نيابة عن الملك ، ( ف 86 د ) ، ويهيئ ويحصر سنويا لائحة الأهلية لترقي القضاة بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء ( مجرد استشارة ) ( ف 23 من ن . أ . ق ) كما يمكن لوزير العدل وبدون الرجوع إلى المجلس الأعلى للقضاء ، أن ينتدب بقرار عند الحاجة قاضيا بدعوى ملأ فراغ في قضاء الحكم أو التحقيق أو النيابة العامة بإحدى المحاكم وذلك لمدة ثلاثة أشهر في السنة ( ف 57 ن أ ق ) ، كما يمكن لوزير العدل وبدون استشارة المجلس الأعلى للقضاء توقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه وذلك في حالة ما إذا توبع هذا الأخير جنائيا أو ارتكب خطأ خطيرا . ويمكن أن يشمل التوقيف عدم صرف الراتب طول مدة التوقيف ( ف 62 من ن أ ق ). وبالإضافة إلى كل ذلك فإن العقوبات التأديبية من الدرجة الأولى تصدر ضد القضاة بقرار من الوزير بعد استشارة ( مجرد استشارة ) المجلس الأعلى للقضاء وتشمل عقوبات الدرجة الأولى الإنذار والتوبيخ عن التأخير من رتبة إلى رتبة أعلى لا تتجاوز سنتين ، والحذف من لائحة الأهلية ( الفصلان 60 و 59 من ن أ ق ) . ومع أن سن التقاعد للقضاة هو ستون ، فإن وزير العدل يمكنه السعي في تمديد هذا الحد لمدة أقصاها سنتان قابلة للتجديد مرتين لنفس الفترة بمقتضى ظهير وباقتراح منه بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء .
كما يهيمن وزير العدل على انتخاب القضاة الستة الأعضاء في المجلس الأعلى للقضاء : فهو الذي يحدد تاريخ الانتخاب وعدد مكاتب التصويت والدوائر ، وتحضير لوائح الناخبين وتعليقها وإمكانية الطعن فيها ، وهو الذي يبث في هذه الطعون . وهو الذي يعين أعضاء مكاتب التصويت باقتراح من الرئيس الأول للمجلس الأعلى والوكيل العام به والإعلام بتاريخ الفرز ( مرسوم 882 . 75 . 2 المؤرخ في 20 ذي الحجة 1395 الموافق لـ 23 / 12 / 75 المتعلق بانتخاب ممثلي القضاة كما تم تعديله وتتميمه )
ووزير العدل هو الذي يعين قضاة التحقيق لدى المحاكم الابتدائية والاستئنافية ويعفيهم .
إن النيابة العامة لدى محكمة العدل الخاصة لا يمكنها تحريف الدعوى العمومية إلا بأمر كتابي من وزير العدل ( ف 8 من قانون محكمة العدل الخاصة ) .
وطبقا للفصل 51 من قانون المسطرة الجنائية ، فإن وزير العدل يشرف على تنفيذ السياسة الجنائية ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها وله أن يبلغ للوكيل العام للملك ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون الجنائي ، وأن يأمره كتابة بمتابعة مرتكبيها أو يكلف من يقوم بذلك ، أو أن يرفع إلى المحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابية …
ويسوغ لوزير العدل أن يعين قاضيا أو عدة قضاة من المجلس الأعلى أو ممن يزاولون عملهم بالإدارة المركزية بالوزارة للقيام بتفتيش المحاكم غير المجلس الأعلى أو للبحث في وقائع محددة … ( الفصل 13 من الظهير بمثابة قانون للتنظيم القضائي رقم 338 . 74 . 1 المؤرخ في 24 ج الثانية 1394 الموافق لـ 17 / 7 / 74 كما وقع تعديله وتتميمه ) .
إن الظهير بمثابة قانون رقم 339 . 74 . 1 بتاريخ 24 ج 2 1394 ( 15 / 7 / 74 ) المتعلق بتنظيم محاكم الجماعات ومحاكم المقاطعات ، يتضمن العديد من المقتضيات الماسة بمبدأ استقلال القضاء عن طريق هيمنة السلطة التنفيذية ، سواء تجلت هذه السلطة في وزارة العدل أو في غيرها …
ب – الأسباب والعراقيل الواقعية التي تحول دون الاستقلال الحقيقي للقضاء :
بالإضافة إلى الجوانب أو الأسباب القانونية التي تحول دون استقلال القضاء ، هناك أسباب واقعية تساهم بدورها في عرقلة استقلال القضاء والتي من بينها :
1 – الوضع العام الفاسد في البلاد والذي يعمل القضاء في ظله متأثرا به ومؤثرا فيه والمتجسد في عدم وجود دستور ديمقراطي في إعداده وفي محتواه والدستور الحالي ، كسابقه تنقصه العديد من المبادئ و الضمانات وتهيمن فيه السلطة الملكية على باقي السلط ، وفي عدم وجود مؤسسات تشريعية ومحلية ومهنية منتخبة انتخابا حرا ونزيها تعبر عن إرادة المواطنين وآمالهم ورغباتهم وطموحاتهم .
2 – عدم احترام السلطة التنفيذية لمبدأ سيادة القانون واحترامه بالتطبيق له وعدم خرقه ، والثابت أن بعض رموزها ومسؤوليها النافدين يتدخلون ، بكيفية مباشرة وغير مباشرة في أعمال السلطة القضائية مع أن القانون يعاقب على هذا التدخل ( الفصل 238 من القانون الجنائي ) .
3 –هناك المحسوبية والحسابات المصلحية في تعيين القضاة وفي ترقيتهم بالرغم من عدم توفر الشروط والمقاييس القانونية ، الأمر الذي يسمح بالتسرب لمؤسسة القضاء وتحمل المسؤولية فيه لنوع من القضاة لا تتوفر فيه الكفاءة والنزاهة والجرأة الأدبية والشعور بالمسؤولية وبالأمانة المفروض توفرها في القضاة والتي من شانها أن تؤهلهم لمقاومة أي تدخل قد يمس باستقلالهم وبكرامتهم ، بل أن بعض هذا النوع من القضاة ، يستجيبون بصفة تلقائية لتوجهات الدولة وحتى في الحالات التي لا يتلقون فيها تعليمات بشأن ما يجب عليهم عمله .
4 – إن الحكم يتعمد عدم توفير الإمكانيات المادية الكافية والبشرية المكونة التي من شأنها أن ترفع من حرمة القضاء وفعاليته وإنتاجه الكمي والنوعي ومن مناعته وحصانته وبالتالي من قدرته على مقاومة كافة الضغوطات والإغراءات ...
متطلبات تحقيق استقلال حقيقي على المستوى التشريعي والمستوى الواقعي وعلاقتها بتحقيق عدالة الأحكام والقرارات القضائية :
يجب التذكير إلى أن استقلال القضاء ولو كان كاملا ، لا يكفي وحده لتحقيق عدالة الأحكام والقرارات القضائية على المستوى السياسي والمدني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي : فاستقلال القضاء وحده لا يكفي للوصول إلى العدالة حتى ولو تم تحقيق هذا الاستقلال بصورة كاملة من الناحية القانونية .
ذلك أن متطلبات تحقيق العدالة في الأحكام والقرارات القضائية ذات شقين : شق عام له علاقة غير مباشرة باستقلال القضاء ، وشق خاص ذو علاقة مباشرة باستقلال القضاء :
أولا : المتطلبات العامة لتحقيق العدالة في الأحكام والقرارات القضائية :
من بين المتطلبات العامة :
1 – أن تكون القوانين التي يطبقها القضاة عادلة وهي لن تكون كذلك إلا إذا كانت مرتكزة على مبادئ حقوق الإنسان في شموليتها السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية ، ومثل هذه القوانين لن تتحقق إلا عبر دستور ديموقراطي في إعداده وفي محتواه ، وذلك على اعتبار أن الدستور هو الذي يحدد الاختيارات التي ترتكز عليها القوانين ويرسم العلاقة بين السلط ومن بينها السلطة القضائية كما يضع أسس حماية استقلال القضاء . كما أن القوانين العادلة لا يمكن أن تصدر إلا عن برلمان منتخب انتخابا حرا ونزيها أي معبر عن إرادة شعبية حقيقية .
وبما أن القوانين العادلة تهم أغلبية الشعب المستغلة والمقهورة والمظلومة ، فإنه يصبح من الضروري والواجب على القوى الديمقراطية المساهمة في توعية هذه الجماهير بحقوقها والانخراط في نضالها من اجل تحقيق القوانين العادلة .
2 – ولا يكفي وجود قوانين عادلة بل يجب السهر والعمل على تطبيق هذه القوانين وإلا كان وجودها مثل عدمها ، ويقتضي العمل على تطبيقها معاقبة من يخرقها والسهر على عدم الإفلات من العقاب الإداري والعقاب القضائي في شقيه الجنائي والمدني …
وبما أن المغرب عرف ولا زال يعرف الإفلات من العقاب ، خاصة عندما يتعلق الأمر بالجرائم الخطيرة المرتكبة من طرف أجهزة الدولة ومن ذوي النفوذ ، فإنه يصير من المتعين على جميع القوى الديمقراطية السياسية والنقابية والاجتماعية والثقافية والحقوقية والمهنية المزيد من توحيد وتصعيد نضالها لفرض عدم الإفلات من العقاب .
ثانيا : المتطلبات الخاصة التي لها علاقة مباشرة بتحقيق استقلال القضاء :
من بين هذه المتطلبات ماله علاقة بالجانب التشريعي . ومن بينها ما له علاقة بالواقع .
المتطلبات التشريعية :
إن المتطلبات التشريعية تقتضي ، من بين ما تقتضي ، إزالة جميع الثغرات القانونية التي تعرقل استقلال القضاء والتي أشرنا إلى بعضها :
وتقتضي الإزالة :
أ – على المستوى الدستوري :
1 ) أن تعاد صياغة الفصل 82 من الدستور ( النص العربي ) ليبرز فيه القضاء كسلطة مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية .
2 ) يعاد النظر في تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء وفي مستوى صلاحياته : ففيما يخص تشكيلة ، أن يصبح مكونا فقط من القضاة المنتخبين وتحت رئاسة الرئيس الأول للمجلس الأعلى . وفيما يخص صلاحياته أن تصبح هذه تقريرية لا استشارية كما هو الأمر حاليا …
3 ) أن تمتد الحماية الواردة في الفصل 85 دستور لتشمل قضاة النيابة العامة بدل اقتصارها على قضاة الأحكام بحيث يصبح هذا الفصل كالتالي :
(( لا يعزل قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون )) .
كما يجب النص على استقلال مساعدي القضاة وحماية هذا الاستقلال .
ب – على المستوى القانوني :
1 – إنهاء كافة أنواع هيمنة وزير العدل القانونية على وضعية وعمل القضاة (قضاة النيابة العامة وقضاة الأحكام ) ونقلها إلى جهاز محايد مستقل تمام الاستقلال عن السلطة التنفيذية . ولا يمكن أن يكون هذا الجهاز إلا المجلس الأعلى للقضاء مع التشديد في الشروط الواجب توفرها في المرشح للعضوية في هذا المجلس على مستوى الكفاءة والفعالية والسلوك . وسيترتب على إنهاء هيمنة وزير العدل أن يصبح هذا الأخير مجرد منفذ لقرارات المجلس الأعلى للقضاء …
2 – فيما يخص تحريك الدعوى العمومية من قبل النيابة العامة لدى محكمة العدل الخاصة بناء على أمر كتابي من وزير العدل ، فإن هذه الصلاحية ستنتهي بانتهاء نفس المحكمة . ويجب أن يتبع انتهاؤها إلغاء المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية التي تعتبر غير مستقلة عن إدارة الدفاع الوطني بحيث إن إجراء البحث والمتابعة وانعقاد جلساتها لا يمكن أن يتم كل ذلك إلا بأمر من الوزير المكلف بإدارة الدفاع الوطني ( المواد 10 و 81 و 32 و 33 من مدونة العدل العسكري ) . ومن جهة أخرى فإن هذه المحكمة الاستثنائية لا تتوفر في مسطرة تنظيمها واختصاصاتها وأحكامها شروط المحاكمة العادلة …
3 - فيما يخص المادة 51 من المسطرة الجنائية ، فإن دور وزير العدل يجب أن يقتصر على الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية وتبليغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها ، وأن يبلغ هؤلاء ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون الجنائي دون أن يتعدى ذلك إلى إصدار أمر للنيابة العامة بمتابعة مرتكبيها أو أن يرفع إلى المحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابية .
وقد أثبثت التجربة أن مختلف وزراء العدل الذين تعاقبوا منذ فجر الاستقلال لغاية تاريخه اقتصروا في الأوامر الموجهة إلى النيابة العامة على متابعة معارضي الحكم في الجرائم السياسية ولم يفعلوا نفس الشيء إزاء أعوان السلطة المرتكبين للجرائم السياسية الفظيعة ضد المعارضين السياسيين …
4 – يجب إلغاء محاكم الجماعات ومحاكم المقاطعات لعدم توفرها على شروط الاستقلال إزاء السلطة التنفيذية بالإضافة إلى عدم توفر القانون المنظم لها على الضمانات والشروط التي تسمح بصدور أحكام عادلة عنها ..
5 – يجب سن عقوبة جنائية تطبق على القضاة الذين لا يتمسكون باستقلالهم الدستوري ويخضعون لمختلف التأثيرات والتوجيهات والتعليمات كيفما كان مصدرها …
المتطلبات الواقعية :
إن المتطلبات الواقعية لتحقيق عدالة الأحكام والقرارات القضائية تقتضي من بين ما تقتضيه ، بالإضافة إلى تحقيق استقلال القضاة ، نزاهة هؤلاء و كفاءتهم ، وشعورهم بالمسؤولية وبالأمانة التي يتحملونها واستعدادهم وقدرتهم على استقلالهم . إن كل ذلك يفرض ما يلي :
1 ) يجب على القضاة تبليغ المجلس الأعلى للقضاء كافة أنواع التدخلات في اختصاصاتهم القضائية كيفما كان مصدرها وخاصة تلك الصادرة عن السلطة التنفيذية ، وعلى المجلس الأعلى للقضاء اتخاذ ما يجب لمتابعة المتدخلين جنائيا وإداريا …
2 ) يجب على القضاة أن يكونوا جمعية تدافع عن مصالحهم المادية والمعنوية وتحمي استقلالهم ، وتنظف صفهم من المنحرفين …
3 ) يجب على الدولة المغربية السعي باستمرار على الرفع من مكانة القضاء والقضاة ، وذلك سواء على مستوى التكوين المستمر أو على مستوى الزيادة في الأجور والتعويضات للقضاة ولكتاب الضبط و في الإمكانيات البشرية والمادية ، سواء من ناحية الكم أو النوع …
4 ) وأخيرا وليس بالأخير ، فإن على ممثلي مختلف مكونات المجتمع المغربي السياسية والنقابية والحقوقية والاجتماعية العمل باستمرار على الدفاع عن استقلال القضاء وحمايته والتصدي بكل حزم ضد كل من يمس بهذا الاستقلال أو يحاول المساس به …
نطاق المداخلة :
سأتناول في هذه المداخلة المسائل الآتية :
* مفهوم استقلال القضاء .
* الهدف من استقلال القضاء .
* مشمولات القضاء المستقل .
* النصوص الحامية لاستقلال القضاء .
* علاقة استقلال القضاء باستقلال مساعديه .
* عراقيل قانونية وواقعية تحول دون استقلال القضاء استقلالا حقيقيا وكاملا .
* متطلبات تحقيق الاستقلال القضائي في التشريع وفي الواقع .
مفهوم استقلال القضاء :
يقصد باستقلال القضاء ، عدم جواز التدخل والتأثير من قبل الغير على ما يصدر عنه من إجراءات وقرارات وأحكام .
والتدخل والتأثير مرفوض سواء كان ماديا أو معنويا وسواء تم بكيفية مباشرة أو غير مباشرة ، وبأية وسيلة من الوسائل .
ويدخل في نطاق الممنوع من التدخل ، السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ، وغيرهما من أشخاص القانون العام والخاص ، كما يدخل في نطاقه الرؤساء الإداريون للقضاة وأطراف الدعوى …
ويقتضي استقلال القضاء من جهة أخرى وجوب امتناع القضاة من الاستجابة أو القبول أو الخضوع لأي تدخل أو تأثير .
وتبعا لذلك فإن القضاة لا يمكن أن يستجيبوا ويخضعوا إلا لصوت القانون والضمير .
الهدف من استقلال القضاء :
الهدف من استقلال القضاء ومن حماية هذا الاستقلال هو تحقيق العدالة التي لا يمكن أن تتحقق في غياب أحد مقوماتها الأساسية وهو استقلال القضاة وحماية هذا الاستقلال من أي تدخل وتأثير …
مشمولات القضاء المستقل :
إن استقلال القضاء وحمايته يشمل استقلال قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة ، كما يشمل السـلـــك القضائي القضاة الذين يمارسون مهامهم بالإدارة المركزية بوزارة العدل ويستنتج ذلك من مقتضيات الدستور ( الفصل 82 ) ، ومن مقتضيات النظام الأساسي للقضاة ( الفصل 1 ) .
ويبرر استقلال النيابة العامة وحماية هذا الاستقلال ، كون النيابة العامة تختص ، من بين ما تختص فيه ، الأمر بإجراء الأبحاث في الجرائم المرتكبة ، وتقرير المتابعات ، وتقديم الملتمسات للمحكمة وتنفيذ قرارات وأحكام هذه الأخيرة ، وإذا اقتضى الأمر الطعن فيها ، ومن شأن استقلال النيابة العامة في ممارسة الاختصاصات المذكورة أن يبعد هذه الممارسة عن كافة أنواع التدخل والتأثير بما يحقق العدالة التي تتجلى من بين ما تتجلى في عدم الإفلات من العقاب بالنسبة لمن يستحقه وفي عدم متابعة ومعاقبة من لا يستحق المتابعة و العقاب …
واستقلال القضاة الذين يمارسون مهامهم بوزارة العدل يكون ضروريا ومبررا عندما تستند لهم مهمة تفتيش المحاكم أو البحث في وقائع محددة طبقا للفصل 13 من التنظيم القضائي …
النصوص المتعلقة بحماية استقلال القضاء :
من بين النصوص القانونية الحامية لاستقلال القضاء هي :
على المستوى الدستوري :
يتضمن الدستور عدة مقتضيات تنص على استقلال القضاء وتساهم ، في حدود معينة ، في حماية هذا الاستقلال .
فالفصول 82 و 85 و 86 و 87 من الدستور تنص على أن القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية ، ولا يعزل قضاة الأحكام و لا ينقلون إلا بمقتضى القانون ، وان المجلس الأعلى للقضاء ، الذي يتألف أغلبية أعضائه من قضاة منتخبين ، هو الذي يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة فيما يرجع لترقيتهم وتأديبهم .
وحسب النظام الأساسي للقضاة ( الفصل 69 ) فإنه "لا يمكن ترقية القضاة المنتخبين بالمجلس الأعلى للقضاء من درجة لأخرى ولا نقلهم ولا انتدابهم مدة انتخابهم" .ويرمي هذا الفصل إلى حماية استقلال القضاء عن طريق حماية استقلال الممثلين لهم في المجلس الأعلى للقضاء من كافة التأثيرات المادية والمعنوية …
وعلى مستوى القانون الجنائي ، فإنه طبقا للفقرة الأولى من الفصل 266 ج فإنه يعاقب على : " الأفعال أو الأقوال أو الكتابات العلنية ، التي يقصد منها التأثير على قرارات رجال القضاء ، قبل صدور الحكم غير القابل للطعن في قضية ما ."
ويمكن اعتبار المس باختصاص القضاء نوعا من المس باستقلاله ، الامر الذي ينتج عنه أن المعاقبة على المس باختصاص القضاء كأنها معاقبة على المس باستقلاله . ومن المعلوم أن الفصل 239 ج يعاقب كل عامل أو قائد ممتاز أو قائد أو أي حاكم إداري آخر فصل في مسألة من اختصاص المحاكم وذلك في غير الحالات التي ينص عليها القانون ، ورغم معارضة الخصوم أو أحدهم .
على مستوى المسطرة الجنائية :
فإننا نرى ، بأن ما يطلق عليه " الامتياز القضائي" الذي يتمتع به القضاة ، وفق الفصول من 264 إلى 267 م ج ، التي تتضمن مقتضيات استثنائية خاصة بالبحث والتحقيق والمتابعة والمحاكمة ، الهدف منه ( من هذا الامتياز ) هو حماية استقلال القضاء .
علاقة استقلال القضاء باستقلال مساعديه :
لا يكفي تحقيق الاستقلال القضائي كعامل من العوامل المهمة في تحقيق العدالة وإنما يجب ، بالإضافة إلى ذلك ، يمتد هذا الاستقلال إلى مساعدي القضاة : ذلك أن هؤلاء الأخيرين ( القضاة )، إنما يتخذون القرارات ويصدرون الأحكام بناء على وثائق وإجراءات يساهم في إعدادها :
في النطاق الجنائي :
- ضباط الشرطة القضائية على مستوى البحث التمهيدي .
- قضاة التحقيق : على مستوى التحقيق الإعدادي .
- المحامون
- الخبراء
- التراجمة
- كتاب الضبط
إن كل هؤلاء المساعدين للقضاة والذين يساهمون في صنع ما يصدر عنهم من إجراءات وقرارات ، يجب أن ينص دستوريا عن استقلالهم عن الغير ، كما هو الأمر بالنسبة لقضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة ، وعلى حماية هذا الاستقلال الذي بدونه سيمس ويتأثر سلبيا استقلال القضاة .
عراقيل قانونية وواقعية تحول دون استقلال القضاء استقلالا حقيقيا وكاملا :
إن النصوص القانونية الحالية ، الدستورية منها وغير الدستورية والتي استعرضناها غير كافية لحماية استقلال القضاء ، إذ أن هناك نصوصا قانونية متفرقة تفتح ثغرات واسعة تمكن السلطة التنفيذية على الخصوص من المساس باستقلال القضاء .
ومن جهة أخرى لا تكفي الحماية القانونية عبر النصوص بل يجب احترام هذه النصوص وعدم خرقها ، وفي حالة خرقها يجب إنزال العقاب المدني ( جبر الضرر ) والتأديبي وإذا اقتضى الأمر الجنائي …
ونستعرض فيما يلي العراقيل القانونية والعراقيل الواقعية .
أ – العراقيل القانونية :
لقد سن النظام السياسي المغربي عدة نصوص قانونية لا يمكن إلا أن تمس باستقلال القضاء وتفرغ الفصل 82 من الدستور من محتواه وخاصة في علاقة القضاء بالسلطة التنفيذية ( الملك كسلطة تشريعية في حالات معينة وتنفيذية ، ووزير العدل كسلطة تنفيذية ) ، إذ أعطى لهذه الأخيرة عدة منافذ قانونية للتأثير على القضاء وتوجيهه . ومن بين هذه المنافذ :
على مستوى السلطة الملكية :
إن الملك يرأس المجلس الأعلى للقضاء المختص بترقية القضاة و تأديبهم ( ف 86 و 87 ) .
والملك على مستوى التعيين ، يعين القضاة بالإدارة المركزية لوزارة العدل بظهير باقتراح من وزير العدل( الفصل 1 من النظام الأساسي للقضاة ن أ ق )، كما يعين الملحقين القضائيين الناجحين في الامتحان بظهير يصدر باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء قضاة في الرتبة الأولى من الدرجة الثالثة . ( ف 7 من ن أ ق ) . وفيما يخص التأديب فإن العقوبة من الدرجة الثانية ( التدحرج على التقاعد – الإقصاء المؤقت – الإحالة على التقاعد – العزل ) تصدر بظهير بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء . ومن المعلوم أن الظهائر الملكية ، غير قابلة لأي طعن قضائي حتى ولو كانت ذات طبيعة إدارية حسب ما ذهب المجلس الأعلى في عدة قرارات له صادرة في هذا الخصوص ومنها القرار الإداري عدد 15 الصادر في 20/3/ 1970 والذي قضى بعدم اختصاصه للبث في الطلب الرامي إلى إلغاء مرسوم ملكي صادر في 11 / 6 / 68 ، معللا قراره بما يلي : " وحيث إن جلالة الملك يمارس اختصاصاته الدستورية بوصفه أمير المؤمنين طبقا للفصل 19 من الدستور ، لا يمكن اعتباره سلطة إدارية بالنسبة لتطبيق الفصل الأول من ظهير 27 شتنبر 1957 ."
وعلى مستوى وزير العدل : فإن هذا الأخير يرأس المجلس الأعلى للقضاء نيابة عن الملك ، ( ف 86 د ) ، ويهيئ ويحصر سنويا لائحة الأهلية لترقي القضاة بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء ( مجرد استشارة ) ( ف 23 من ن . أ . ق ) كما يمكن لوزير العدل وبدون الرجوع إلى المجلس الأعلى للقضاء ، أن ينتدب بقرار عند الحاجة قاضيا بدعوى ملأ فراغ في قضاء الحكم أو التحقيق أو النيابة العامة بإحدى المحاكم وذلك لمدة ثلاثة أشهر في السنة ( ف 57 ن أ ق ) ، كما يمكن لوزير العدل وبدون استشارة المجلس الأعلى للقضاء توقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه وذلك في حالة ما إذا توبع هذا الأخير جنائيا أو ارتكب خطأ خطيرا . ويمكن أن يشمل التوقيف عدم صرف الراتب طول مدة التوقيف ( ف 62 من ن أ ق ). وبالإضافة إلى كل ذلك فإن العقوبات التأديبية من الدرجة الأولى تصدر ضد القضاة بقرار من الوزير بعد استشارة ( مجرد استشارة ) المجلس الأعلى للقضاء وتشمل عقوبات الدرجة الأولى الإنذار والتوبيخ عن التأخير من رتبة إلى رتبة أعلى لا تتجاوز سنتين ، والحذف من لائحة الأهلية ( الفصلان 60 و 59 من ن أ ق ) . ومع أن سن التقاعد للقضاة هو ستون ، فإن وزير العدل يمكنه السعي في تمديد هذا الحد لمدة أقصاها سنتان قابلة للتجديد مرتين لنفس الفترة بمقتضى ظهير وباقتراح منه بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء .
كما يهيمن وزير العدل على انتخاب القضاة الستة الأعضاء في المجلس الأعلى للقضاء : فهو الذي يحدد تاريخ الانتخاب وعدد مكاتب التصويت والدوائر ، وتحضير لوائح الناخبين وتعليقها وإمكانية الطعن فيها ، وهو الذي يبث في هذه الطعون . وهو الذي يعين أعضاء مكاتب التصويت باقتراح من الرئيس الأول للمجلس الأعلى والوكيل العام به والإعلام بتاريخ الفرز ( مرسوم 882 . 75 . 2 المؤرخ في 20 ذي الحجة 1395 الموافق لـ 23 / 12 / 75 المتعلق بانتخاب ممثلي القضاة كما تم تعديله وتتميمه )
ووزير العدل هو الذي يعين قضاة التحقيق لدى المحاكم الابتدائية والاستئنافية ويعفيهم .
إن النيابة العامة لدى محكمة العدل الخاصة لا يمكنها تحريف الدعوى العمومية إلا بأمر كتابي من وزير العدل ( ف 8 من قانون محكمة العدل الخاصة ) .
وطبقا للفصل 51 من قانون المسطرة الجنائية ، فإن وزير العدل يشرف على تنفيذ السياسة الجنائية ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها وله أن يبلغ للوكيل العام للملك ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون الجنائي ، وأن يأمره كتابة بمتابعة مرتكبيها أو يكلف من يقوم بذلك ، أو أن يرفع إلى المحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابية …
ويسوغ لوزير العدل أن يعين قاضيا أو عدة قضاة من المجلس الأعلى أو ممن يزاولون عملهم بالإدارة المركزية بالوزارة للقيام بتفتيش المحاكم غير المجلس الأعلى أو للبحث في وقائع محددة … ( الفصل 13 من الظهير بمثابة قانون للتنظيم القضائي رقم 338 . 74 . 1 المؤرخ في 24 ج الثانية 1394 الموافق لـ 17 / 7 / 74 كما وقع تعديله وتتميمه ) .
إن الظهير بمثابة قانون رقم 339 . 74 . 1 بتاريخ 24 ج 2 1394 ( 15 / 7 / 74 ) المتعلق بتنظيم محاكم الجماعات ومحاكم المقاطعات ، يتضمن العديد من المقتضيات الماسة بمبدأ استقلال القضاء عن طريق هيمنة السلطة التنفيذية ، سواء تجلت هذه السلطة في وزارة العدل أو في غيرها …
ب – الأسباب والعراقيل الواقعية التي تحول دون الاستقلال الحقيقي للقضاء :
بالإضافة إلى الجوانب أو الأسباب القانونية التي تحول دون استقلال القضاء ، هناك أسباب واقعية تساهم بدورها في عرقلة استقلال القضاء والتي من بينها :
1 – الوضع العام الفاسد في البلاد والذي يعمل القضاء في ظله متأثرا به ومؤثرا فيه والمتجسد في عدم وجود دستور ديمقراطي في إعداده وفي محتواه والدستور الحالي ، كسابقه تنقصه العديد من المبادئ و الضمانات وتهيمن فيه السلطة الملكية على باقي السلط ، وفي عدم وجود مؤسسات تشريعية ومحلية ومهنية منتخبة انتخابا حرا ونزيها تعبر عن إرادة المواطنين وآمالهم ورغباتهم وطموحاتهم .
2 – عدم احترام السلطة التنفيذية لمبدأ سيادة القانون واحترامه بالتطبيق له وعدم خرقه ، والثابت أن بعض رموزها ومسؤوليها النافدين يتدخلون ، بكيفية مباشرة وغير مباشرة في أعمال السلطة القضائية مع أن القانون يعاقب على هذا التدخل ( الفصل 238 من القانون الجنائي ) .
3 –هناك المحسوبية والحسابات المصلحية في تعيين القضاة وفي ترقيتهم بالرغم من عدم توفر الشروط والمقاييس القانونية ، الأمر الذي يسمح بالتسرب لمؤسسة القضاء وتحمل المسؤولية فيه لنوع من القضاة لا تتوفر فيه الكفاءة والنزاهة والجرأة الأدبية والشعور بالمسؤولية وبالأمانة المفروض توفرها في القضاة والتي من شانها أن تؤهلهم لمقاومة أي تدخل قد يمس باستقلالهم وبكرامتهم ، بل أن بعض هذا النوع من القضاة ، يستجيبون بصفة تلقائية لتوجهات الدولة وحتى في الحالات التي لا يتلقون فيها تعليمات بشأن ما يجب عليهم عمله .
4 – إن الحكم يتعمد عدم توفير الإمكانيات المادية الكافية والبشرية المكونة التي من شأنها أن ترفع من حرمة القضاء وفعاليته وإنتاجه الكمي والنوعي ومن مناعته وحصانته وبالتالي من قدرته على مقاومة كافة الضغوطات والإغراءات ...
متطلبات تحقيق استقلال حقيقي على المستوى التشريعي والمستوى الواقعي وعلاقتها بتحقيق عدالة الأحكام والقرارات القضائية :
يجب التذكير إلى أن استقلال القضاء ولو كان كاملا ، لا يكفي وحده لتحقيق عدالة الأحكام والقرارات القضائية على المستوى السياسي والمدني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي : فاستقلال القضاء وحده لا يكفي للوصول إلى العدالة حتى ولو تم تحقيق هذا الاستقلال بصورة كاملة من الناحية القانونية .
ذلك أن متطلبات تحقيق العدالة في الأحكام والقرارات القضائية ذات شقين : شق عام له علاقة غير مباشرة باستقلال القضاء ، وشق خاص ذو علاقة مباشرة باستقلال القضاء :
أولا : المتطلبات العامة لتحقيق العدالة في الأحكام والقرارات القضائية :
من بين المتطلبات العامة :
1 – أن تكون القوانين التي يطبقها القضاة عادلة وهي لن تكون كذلك إلا إذا كانت مرتكزة على مبادئ حقوق الإنسان في شموليتها السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية ، ومثل هذه القوانين لن تتحقق إلا عبر دستور ديموقراطي في إعداده وفي محتواه ، وذلك على اعتبار أن الدستور هو الذي يحدد الاختيارات التي ترتكز عليها القوانين ويرسم العلاقة بين السلط ومن بينها السلطة القضائية كما يضع أسس حماية استقلال القضاء . كما أن القوانين العادلة لا يمكن أن تصدر إلا عن برلمان منتخب انتخابا حرا ونزيها أي معبر عن إرادة شعبية حقيقية .
وبما أن القوانين العادلة تهم أغلبية الشعب المستغلة والمقهورة والمظلومة ، فإنه يصبح من الضروري والواجب على القوى الديمقراطية المساهمة في توعية هذه الجماهير بحقوقها والانخراط في نضالها من اجل تحقيق القوانين العادلة .
2 – ولا يكفي وجود قوانين عادلة بل يجب السهر والعمل على تطبيق هذه القوانين وإلا كان وجودها مثل عدمها ، ويقتضي العمل على تطبيقها معاقبة من يخرقها والسهر على عدم الإفلات من العقاب الإداري والعقاب القضائي في شقيه الجنائي والمدني …
وبما أن المغرب عرف ولا زال يعرف الإفلات من العقاب ، خاصة عندما يتعلق الأمر بالجرائم الخطيرة المرتكبة من طرف أجهزة الدولة ومن ذوي النفوذ ، فإنه يصير من المتعين على جميع القوى الديمقراطية السياسية والنقابية والاجتماعية والثقافية والحقوقية والمهنية المزيد من توحيد وتصعيد نضالها لفرض عدم الإفلات من العقاب .
ثانيا : المتطلبات الخاصة التي لها علاقة مباشرة بتحقيق استقلال القضاء :
من بين هذه المتطلبات ماله علاقة بالجانب التشريعي . ومن بينها ما له علاقة بالواقع .
المتطلبات التشريعية :
إن المتطلبات التشريعية تقتضي ، من بين ما تقتضي ، إزالة جميع الثغرات القانونية التي تعرقل استقلال القضاء والتي أشرنا إلى بعضها :
وتقتضي الإزالة :
أ – على المستوى الدستوري :
1 ) أن تعاد صياغة الفصل 82 من الدستور ( النص العربي ) ليبرز فيه القضاء كسلطة مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية .
2 ) يعاد النظر في تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء وفي مستوى صلاحياته : ففيما يخص تشكيلة ، أن يصبح مكونا فقط من القضاة المنتخبين وتحت رئاسة الرئيس الأول للمجلس الأعلى . وفيما يخص صلاحياته أن تصبح هذه تقريرية لا استشارية كما هو الأمر حاليا …
3 ) أن تمتد الحماية الواردة في الفصل 85 دستور لتشمل قضاة النيابة العامة بدل اقتصارها على قضاة الأحكام بحيث يصبح هذا الفصل كالتالي :
(( لا يعزل قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون )) .
كما يجب النص على استقلال مساعدي القضاة وحماية هذا الاستقلال .
ب – على المستوى القانوني :
1 – إنهاء كافة أنواع هيمنة وزير العدل القانونية على وضعية وعمل القضاة (قضاة النيابة العامة وقضاة الأحكام ) ونقلها إلى جهاز محايد مستقل تمام الاستقلال عن السلطة التنفيذية . ولا يمكن أن يكون هذا الجهاز إلا المجلس الأعلى للقضاء مع التشديد في الشروط الواجب توفرها في المرشح للعضوية في هذا المجلس على مستوى الكفاءة والفعالية والسلوك . وسيترتب على إنهاء هيمنة وزير العدل أن يصبح هذا الأخير مجرد منفذ لقرارات المجلس الأعلى للقضاء …
2 – فيما يخص تحريك الدعوى العمومية من قبل النيابة العامة لدى محكمة العدل الخاصة بناء على أمر كتابي من وزير العدل ، فإن هذه الصلاحية ستنتهي بانتهاء نفس المحكمة . ويجب أن يتبع انتهاؤها إلغاء المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية التي تعتبر غير مستقلة عن إدارة الدفاع الوطني بحيث إن إجراء البحث والمتابعة وانعقاد جلساتها لا يمكن أن يتم كل ذلك إلا بأمر من الوزير المكلف بإدارة الدفاع الوطني ( المواد 10 و 81 و 32 و 33 من مدونة العدل العسكري ) . ومن جهة أخرى فإن هذه المحكمة الاستثنائية لا تتوفر في مسطرة تنظيمها واختصاصاتها وأحكامها شروط المحاكمة العادلة …
3 - فيما يخص المادة 51 من المسطرة الجنائية ، فإن دور وزير العدل يجب أن يقتصر على الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية وتبليغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها ، وأن يبلغ هؤلاء ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون الجنائي دون أن يتعدى ذلك إلى إصدار أمر للنيابة العامة بمتابعة مرتكبيها أو أن يرفع إلى المحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابية .
وقد أثبثت التجربة أن مختلف وزراء العدل الذين تعاقبوا منذ فجر الاستقلال لغاية تاريخه اقتصروا في الأوامر الموجهة إلى النيابة العامة على متابعة معارضي الحكم في الجرائم السياسية ولم يفعلوا نفس الشيء إزاء أعوان السلطة المرتكبين للجرائم السياسية الفظيعة ضد المعارضين السياسيين …
4 – يجب إلغاء محاكم الجماعات ومحاكم المقاطعات لعدم توفرها على شروط الاستقلال إزاء السلطة التنفيذية بالإضافة إلى عدم توفر القانون المنظم لها على الضمانات والشروط التي تسمح بصدور أحكام عادلة عنها ..
5 – يجب سن عقوبة جنائية تطبق على القضاة الذين لا يتمسكون باستقلالهم الدستوري ويخضعون لمختلف التأثيرات والتوجيهات والتعليمات كيفما كان مصدرها …
المتطلبات الواقعية :
إن المتطلبات الواقعية لتحقيق عدالة الأحكام والقرارات القضائية تقتضي من بين ما تقتضيه ، بالإضافة إلى تحقيق استقلال القضاة ، نزاهة هؤلاء و كفاءتهم ، وشعورهم بالمسؤولية وبالأمانة التي يتحملونها واستعدادهم وقدرتهم على استقلالهم . إن كل ذلك يفرض ما يلي :
1 ) يجب على القضاة تبليغ المجلس الأعلى للقضاء كافة أنواع التدخلات في اختصاصاتهم القضائية كيفما كان مصدرها وخاصة تلك الصادرة عن السلطة التنفيذية ، وعلى المجلس الأعلى للقضاء اتخاذ ما يجب لمتابعة المتدخلين جنائيا وإداريا …
2 ) يجب على القضاة أن يكونوا جمعية تدافع عن مصالحهم المادية والمعنوية وتحمي استقلالهم ، وتنظف صفهم من المنحرفين …
3 ) يجب على الدولة المغربية السعي باستمرار على الرفع من مكانة القضاء والقضاة ، وذلك سواء على مستوى التكوين المستمر أو على مستوى الزيادة في الأجور والتعويضات للقضاة ولكتاب الضبط و في الإمكانيات البشرية والمادية ، سواء من ناحية الكم أو النوع …
4 ) وأخيرا وليس بالأخير ، فإن على ممثلي مختلف مكونات المجتمع المغربي السياسية والنقابية والحقوقية والاجتماعية العمل باستمرار على الدفاع عن استقلال القضاء وحمايته والتصدي بكل حزم ضد كل من يمس بهذا الاستقلال أو يحاول المساس به …