يمكن تعريف السياسة الجنائية بصفة عامة بأنها مجموعة الوسائل والتدابير التي تحدثها الدولة في حقبة زمنية معنية لمكافحة الجريمة وحفظ الأمن والاستقرار داخل ربوعها( )، ويلاحظ في هذا الشأن أن هناك مفهومان للسياسة الجنائية أحدهما ضيق والآخر واسع، لكن قبل التطرق لهذين الأخيرين نورد تعريفا شاملا ومختصرا للسياسة الجنائية والذي يعتبرها ذلك الإطار النظري المحدد لكيفية حل الصراع الحتمي بين الجريمة والمجتمع.
فالسياسة الجنائية بالمفهوم الضيق هي مجموعة الوسائل والتدابير التي ينبغي على الدولة تسخيرها لزجر الجريمة بأكبر قدر من الفعالية( ) وهذه النظرية ظلت سائدة خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كما هو الحال في التعريف الذي أورده الفقيه فورباخ Feurbach عندما اعتبر السياسة الجنائية مجموع الوسائل الزجرية التي تواجه بها الدولة الجريمة، وهو نفس الاتجاه الذي ذهب إليه الفقيه الشهير VONLIZET، حينما حصر مفهوم السياسة الجنائية في المجموعة المنظمة من المبادئ التي يتحتم على الدولة والمجتمع اعتمادها لتنظيم عملية محاربة الجريمة( ).
وبذلك فالمفهوم التقليدي للسياسة الجنائية ظل يتأرجح ما بين التجريم والعقاب من جهة وما يتعلق بالتدابير والإجراءات المسطرية حيث لا يخلو الأمر من معالجة ظاهرة الإجرام على المستويين الموضوعي والشكلي، فكلما تعلق الأمر بتجريم فعل أو تركه وتحديد العقاب المناسب له إلا وكان موضوع ذلك القانون الجنائي ـ قانون الموضوع ـ وكلما تعلق الأمر بإجراءات البحث والمتابعة والمحاكمة والتنفيذ إلا وكان موضوع ذلك قانون المسطرة الجنائية ـ قانون الشكل ـ.
أما المفهوم الواسع للسياسة الجنائية والسائد في الوقت المعاصر فهو لا يقتصر على مواجهة الجريمة بسن تشريعات جزائية وتشديد العقوبات، بل تجاوز الأمر إلى الاهتمام بالأسباب المؤدية إلى استفحال ظاهرة الإجرام بغية التصدي لها والحد من ارتفاعها، لأن القانون الجنائي فضلا عن طبيعته الفقهية Science juridique التي تقتضي تكوين المشتغلين به تكوينا فقهيا يؤهلهم لمعرفة وتفسير قوانين العقوبات في الحدود المرسومة للعقاب، فهو أي القانون الجنائي علم اجتماعي Science social يدخل في مجموعة العلوم الجنائية Sciences criminelles والتي تبحث في أسباب الإجرام وطرق علاجه( ).
لذا فإن السياسة الجنائية تعنى بالمرحلة التي تسبق ارتكاب الجريمة وذلك بسن سياسة وقائية شاملة من شأنها أن تحول دون وقوع الجرم، وهذا الأمر يقتضي من الدولة اعتماد خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحسين مستوى المعيشة لدى ساكنتها، فإجبارية التعليم من شأنها أن تحد من ظاهرة الأمية وانعدام الشعور بالمسؤولية والوعي لدى الناس، وتوفير السكن اللائق من شأنه هو الآخر أن يساهم في معالجة ظاهرة الإجرام إذ الإحصائيات تفيد أن الجريمة تنبع من الأحياء الهامشية التي لا تتوفر على أدنى شروط الصحة، ومحاربة الإدمان على الخمور والمخدرات والقضاء على دور الدعارة والفساد والقمار التي تعتبر سببا رئيسيا في استفحال ظاهرة الإجرام.
والاهتمام بالأطفال واليافعين لتحصينهم من الانحراف والانزلاق إلى عالم الرذيلة، إسوة بالمختلين عقليا وما يشكلونه من مخاطر على المجتمع حيث ينبغي التكفل بهم وتتبع حالاتهم إلى حين تماثلهم للشفاء الكامل.
كما يدخل ضمن التدابير الوقائية في السياسة الجنائية تشديد العقوبة المقررة لبعض الجرائم التي استفحلت وتنامت في وقت معين فالهجرة السرية وما تخلفه من خسائر في الأرواح والممتلكات أدت إلى تدخل المشرع للرفع من مدة العقوبة الحبسية والغرامة وذلك لتحقيق الردع العام والخاص في آن واحد( ) والاعتداء الجنسي على الأطفال أوجب كذلك القيام بنفس الخطورة رافعا من سن القاصر ما دون 18 سنة، بل زاد حتى في العقوبة المقررة للجاني فتجاوزت حد عقوبة الجنحة (خمس سنوات) ( ).
وحمل السلاح الناري إلا برخصة، وغير الناري إن كان من الأشياء الواخزة أو الراضة أو القاطعة أو الخانقة هو الآخر يمنع حمله في ظروف تشكل تهديدا للأمن العام أو لسلامة الأشخاص أو الأموال ما لم يكن نشاط حامله المهني يسمح له بذلك هي أيضا تدابير وقائية وزجرية تندرج ضمن السياسة الجنائية( ).
والدخول إلى نظام للمعالجة الآلية للمعطيات عن طريق الاحتيال أو حذفه أو تغييره أو إحداث اضطراب في سيره وغير ذلك من الأفعال الماسة بهذا النظام دفعت بالمشرع لتجريمها والمعاقبة عليها بالحبس والغرامة المكلفة جدا من شأن ذلك أن يحد من ظاهرة الإجرام( ).
أما الجرائم التي فاجأتنا في مطلع القرن الواحد والعشرين الحالي والتي أصبحت تدخل في زمرة الأفعال الإرهابية وتنفذ بشكل جماعي أو فردي وتستهدف المس بالنظام العام في أي بلد بواسطة التخويف والترهيب والعنف بالاعتداء على حياة الأشخاص أو على سلامتهم أو على حرياتهم أو اختطافهم أو احتجازهم، والقيام بأعمال التخريب أو التعييب أو الإتلاف وتحويل الطائرات أو السفن أو العربات وصنع وحيازة أو نقل المتفجرات والأسلحة، فقد حذت بالمشرع إلى التدخل لسن قانون صارم لزجر مرتكبي هذه الأفعال وللحد من هذه الظاهرة( ).
والمنظور الجديد المعاصر للسياسة الجنائية هو الذي حذا بالمشرع المغربي إلى إحداث ثورة في قانون المسطرة الجنائية (03/10/2002) وذلك بإقرار عدالة تصاليحة تنحو على محو آثار الجريمة فورا بالحفاظ على الوضعية التي كانت سائدة قبل ارتكاب الفعل وذلك لرأب الصدع الذي يمكن أن يمس العلاقات الاجتماعية بين الناس نسوق على سبيل المثال بعض هذه التدابير :
ـ إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه عندما يتعلق الأمر بانتزاع حيازة بعد تنفيذ حكم، وتقوم بهذا الإجراء النيابة العامة تحت مراقبة القضاء الذي له أن يقره أو يلغيه أو يعدله (المادتان 40 و49 ق.م.ج).
ـ رد الأشياء المحجوزة لمن له الحق فيها.
ـ الصلح بين الأطراف : هذا الإجراء هو لب العدالة وجوهرها لأنه يرأب الصدع بين الخصوم ويجبر ضرر الضحية، ويجنب الجاني المتابعة وما يترتب عنها من تلطيخ لسمعته.
ـ إيقاف سير الدعوى : في بعض الجنح إذا تنازل المتضرر أثناء سريان الدعوى العمومية يمكن للمحكمة أن تأمر بإيقاف سير إجراءاتها بناء على ملتمس من النيابة العامة (المادة 372).
ـ السند التنفيذي للنيابة العامة في المخالفات المعاقب عليها بالغرامة فقط أن تقترح على المخالف أداء غرامة جزافية لا تتجاوز نصف الحد الأقصى بمقتضى سند قابل للتنفيذ (المادة 375 ق. م.ج) وهو تدبير من شأنه التجنيب من التقييد في السجل العدلي للمخالف.
هذا وينضاف إلى هذه التدابير التي تبناها المشرع المغربي تمشيا مع المفهوم الجديد للسياسة الجنائية تبنيه أيضا لنظام الحرية المحروسة بالنسبة للأحداث حيث عهد في دائرة كل محكمة استئناف إلى مندوب أو عدة مندوبين دائمين أو مجرد متطوعين بالإشراف وتتبع الأحداث الجاري عليهم هذا التدبير وذلك للعمل على تجنيب الحدث كل عود إلى الجريمة واقتراح ما يفيد لإعادة تربيته، كما أناط القانون بهؤلاء المندوبين مهمة مراقبة الظروف المادية والمعنوية التي يعيش فيها الحدث وحالته الصحية وظروف تربيته وعمله وعلاقاته مع محيطه( ).
أما الأطفال الذين لا يتجاوز سنهم 18 سنة إذا كانوا ضحايا جناية أو جنحة فقد خول القانون للقضاء المختص تلقائيا أو بناء على ملتمس من النيابة العامة سلطة إيداع الحدث المجني عليه لدى شخص جدير بالثقة أو مؤسسة خصوصية أو جمعية ذات منفعة عامة مؤهلة لذلك أو لمصلحة أو مؤسسة عمومية مكلفة برعاية الطفولة إلى حين صدور حكم أو قرار نهائي( ).
بينما الأحداث الموجودين في وضعية صعبة أجاز القانون للقاضي المختص بناء على ملتمس النيابة العامة أن يتخذ أي تدبير يراه كفيلا بحماية الحدث المذكور الذي يقل سنه عن 16 سنة وكانت سلامته البدنية أو الذهنية أو النفسية أو الأخلاقية أو تربيته معرضه للخطر( ).
خلاصة القول إن النظرية الحديثة للسياسة الجنائية تروم إلى رؤيا شاملة لظاهرة الإجرام بالبحث والتقصي عن أسبابها ودوافعها من خلال دراسات إحصائية هادفة لكل منطقة داخل الدولة الوحيدة وإيجاد الحلول والتدابير الناجعة للحد من تفشيها ومحاربتها واجتثاتها من جذورها للحفاظ على استقرار المجتمع، وما تطوير النصوص التشريعية بالتغيير والإتمام والإلغاء سواء همت القانون الجنائي أو المسطرة الجنائية وغيرها من القوانين الخاصة التي تشتمل على مواد زجرية إلا ضرب من ضروب التدابير التي ينبغي التفكير فيها من خلال ما يتحصل من ملاحظات ومعطيات، وبيانات يتم رصدها في المجتمع والتي من شأنها رسم خطة رشيدة للوقاية من الجريمة أي الحيلولة دون وقوعها، ومعالجة آثارها بعد ارتكابها.