إن تطور الإنسان والحضارة عبر التاريخ وتآلف الأفراد في مجتمعات ودول وقارات أدت إلى وضع قوانين وأنظمة سنت حدودا للحقوق والتصرفات فجرمت أفعالا لا تتفق مع النظام العام وأحدثت لهذه الغاية سلطات أنيط بها البحث وإقامة الدعوى العمومية وتوقيع العقوبات والعمل على تنفيذها.
لكن في العصر الحالي الذي أضحى فيه العالم قرية صغيرة بحكم ثورة الاتصالات وهي إحدى الآليات المهمة للعولمة التي مكنت من تخطي الحدود واجتيازها رغم تجلياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ورغم ما تحمله هذه العولمة من طيات الهيمنة والسيطرة والتسلط، فإن الجريمة أصبحت عالمية لا حدود لها جهويا أو قاريا، ولا تشكل عدوانا على حرمات الأوطان فحسب وخصوصياتها ومعتقداتها واقتصادياتها بل ما تشكله من مخاطر على حياة بني البشر قاطبة برا وبحرا وجوا.
وعولمة الجريمة زاد الأمر تعقيدا، إن لم نقل أصبح من المستعصي مكافحة ظاهرة الإجرام في صورتها الحالية، ذلك أنها لم تعد مرتبطة بحيز مكاني محدود أو زمان معين ولم يعد الأمر يتعلق بأشخاص معنيين في ذواتهم يمكن تتبع نشاطهم ومراقبة سلوكهم وتحركاتهم المريبة، بل لم تعد الحدود الفاصلة بين الدول متصورة بالنسبة للنشاط الإجرامي، فأمام التطور التكنولوجي الحديث، أصبح في إمكان شخص بالمغرب مثلا أن يساهم في ارتكاب جريمة خطيرة في بلد آخر لا يرتبط بالمغرب باية حدود مشتركة وذلك بمساهمة أشخاص آخرين ربما تختلف إقامتهم وجنسياتهم( ).
أمام خطورة هذه الوضعية أصبحت دول المعمور بأسرها مطالبة بالتفكير في إعادة النظر في سياساتها الجنائية بصفة عامة وذلك بإيجاد خطط وأساليب تتجاوب وتطور الجريمة المرتبطة بالتقدم التكنولوجي، بل إن هذه الدول لم تعد تجديدا من خلق وسائل جديدة للتعامل مع بعضها في إطار تتبع المجرمين ومواكبتهم أينما حلوا وارتحلوا، وأن تجد إطارا جديدا للتعاون المثمر في هذا المجال خصوصا وأن مساطر التعاون الدولي التقليدية أصبحت متجاوزة لما يكتنفها من تعقيد في الإجراءات وبطء في التنفيذ.
لذا فإلى أي حد يمكن اعتماد سياسة جنائية كفيلة بمحاربة ظاهرة الإجرام، وما هي الآليات الناجعة لتنفيذ هذه السياسة سواء كانت هذه الآليات تقي من مخاطر الجريمة قبل وقوعها أو تعالج آثارها بعد الوقوع إن بالنسبة لمرتكبيها أم بالنسبة لضحاياها، ومن هي المؤسسات التي ينبغي أن تناط بها هذه المهام ؟
للإلمام بهذه الإشكالية سنحاول التطرق إلى دور المؤسسات العقابية في (مطلب ثاني) عبر مختلف الوسائل الكفيلة لإعادة إدماج المجرم في المجتمع وإصلاحه، وفي (مطلب ثالث) سنتحدث عن دور المؤسسات الاجتماعية، لكن قبل كل هذا سنقوم بوضع تعريف لمفهوم السياسة الجنائية وذلك في (مطلب أول).
المطلب الأول : مفهوم السياسة الجنائية
يمكن تعريف السياسة الجنائية بصفة عامة بأنها مجموعة الوسائل والتدابير التي تحدثها الدولة في حقبة زمنية معنية لمكافحة الجريمة وحفظ الأمن والاستقرار داخل ربوعها( )، ويلاحظ في هذا الشأن أن هناك مفهومان للسياسة الجنائية أحدهما ضيق والآخر واسع، لكن قبل التطرق لهذين الأخيرين نورد تعريفا شاملا ومختصرا للسياسة الجنائية والذي يعتبرها ذلك الإطار النظري المحدد لكيفية حل الصراع الحتمي بين الجريمة والمجتمع.
فالسياسة الجنائية بالمفهوم الضيق هي مجموعة الوسائل والتدابير التي ينبغي على الدولة تسخيرها لزجر الجريمة بأكبر قدر من الفعالية( ) وهذه النظرية ظلت سائدة خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كما هو الحال في التعريف الذي أورده الفقيه فورباخ Feurbach عندما اعتبر السياسة الجنائية مجموع الوسائل الزجرية التي تواجه بها الدولة الجريمة، وهو نفس الاتجاه الذي ذهب إليه الفقيه الشهير VONLIZET، حينما حصر مفهوم السياسة الجنائية في المجموعة المنظمة من المبادئ التي يتحتم على الدولة والمجتمع اعتمادها لتنظيم عملية محاربة الجريمة( ).
وبذلك فالمفهوم التقليدي للسياسة الجنائية ظل يتأرجح ما بين التجريم والعقاب من جهة وما يتعلق بالتدابير والإجراءات المسطرية حيث لا يخلو الأمر من معالجة ظاهرة الإجرام على المستويين الموضوعي والشكلي، فكلما تعلق الأمر بتجريم فعل أو تركه وتحديد العقاب المناسب له إلا وكان موضوع ذلك القانون الجنائي ـ قانون الموضوع ـ وكلما تعلق الأمر بإجراءات البحث والمتابعة والمحاكمة والتنفيذ إلا وكان موضوع ذلك قانون المسطرة الجنائية ـ قانون الشكل ـ.
أما المفهوم الواسع للسياسة الجنائية والسائد في الوقت المعاصر فهو لا يقتصر على مواجهة الجريمة بسن تشريعات جزائية وتشديد العقوبات، بل تجاوز الأمر إلى الاهتمام بالأسباب المؤدية إلى استفحال ظاهرة الإجرام بغية التصدي لها والحد من ارتفاعها، لأن القانون الجنائي فضلا عن طبيعته الفقهية Science juridique التي تقتضي تكوين المشتغلين به تكوينا فقهيا يؤهلهم لمعرفة وتفسير قوانين العقوبات في الحدود المرسومة للعقاب، فهو أي القانون الجنائي علم اجتماعي Science social يدخل في مجموعة العلوم الجنائية Sciences criminelles والتي تبحث في أسباب الإجرام وطرق علاجه( ).
لذا فإن السياسة الجنائية تعنى بالمرحلة التي تسبق ارتكاب الجريمة وذلك بسن سياسة وقائية شاملة من شأنها أن تحول دون وقوع الجرم، وهذا الأمر يقتضي من الدولة اعتماد خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحسين مستوى المعيشة لدى ساكنتها، فإجبارية التعليم من شأنها أن تحد من ظاهرة الأمية وانعدام الشعور بالمسؤولية والوعي لدى الناس، وتوفير السكن اللائق من شأنه هو الآخر أن يساهم في معالجة ظاهرة الإجرام إذ الإحصائيات تفيد أن الجريمة تنبع من الأحياء الهامشية التي لا تتوفر على أدنى شروط الصحة، ومحاربة الإدمان على الخمور والمخدرات والقضاء على دور الدعارة والفساد والقمار التي تعتبر سببا رئيسيا في استفحال ظاهرة الإجرام.
والاهتمام بالأطفال واليافعين لتحصينهم من الانحراف والانزلاق إلى عالم الرذيلة، إسوة بالمختلين عقليا وما يشكلونه من مخاطر على المجتمع حيث ينبغي التكفل بهم وتتبع حالاتهم إلى حين تماثلهم للشفاء الكامل.
كما يدخل ضمن التدابير الوقائية في السياسة الجنائية تشديد العقوبة المقررة لبعض الجرائم التي استفحلت وتنامت في وقت معين فالهجرة السرية وما تخلفه من خسائر في الأرواح والممتلكات أدت إلى تدخل المشرع للرفع من مدة العقوبة الحبسية والغرامة وذلك لتحقيق الردع العام والخاص في آن واحد( ) والاعتداء الجنسي على الأطفال أوجب كذلك القيام بنفس الخطورة رافعا من سن القاصر ما دون 18 سنة، بل زاد حتى في العقوبة المقررة للجاني فتجاوزت حد عقوبة الجنحة (خمس سنوات) ( ).
وحمل السلاح الناري إلا برخصة، وغير الناري إن كان من الأشياء الواخزة أو الراضة أو القاطعة أو الخانقة هو الآخر يمنع حمله في ظروف تشكل تهديدا للأمن العام أو لسلامة الأشخاص أو الأموال ما لم يكن نشاط حامله المهني يسمح له بذلك هي أيضا تدابير وقائية وزجرية تندرج ضمن السياسة الجنائية( ).
والدخول إلى نظام للمعالجة الآلية للمعطيات عن طريق الاحتيال أو حذفه أو تغييره أو إحداث اضطراب في سيره وغير ذلك من الأفعال الماسة بهذا النظام دفعت بالمشرع لتجريمها والمعاقبة عليها بالحبس والغرامة المكلفة جدا من شأن ذلك أن يحد من ظاهرة الإجرام( ).
أما الجرائم التي فاجأتنا في مطلع القرن الواحد والعشرين الحالي والتي أصبحت تدخل في زمرة الأفعال الإرهابية وتنفذ بشكل جماعي أو فردي وتستهدف المس بالنظام العام في أي بلد بواسطة التخويف والترهيب والعنف بالاعتداء على حياة الأشخاص أو على سلامتهم أو على حرياتهم أو اختطافهم أو احتجازهم، والقيام بأعمال التخريب أو التعييب أو الإتلاف وتحويل الطائرات أو السفن أو العربات وصنع وحيازة أو نقل المتفجرات والأسلحة، فقد حذت بالمشرع إلى التدخل لسن قانون صارم لزجر مرتكبي هذه الأفعال وللحد من هذه الظاهرة( ).
والمنظور الجديد المعاصر للسياسة الجنائية هو الذي حذا بالمشرع المغربي إلى إحداث ثورة في قانون المسطرة الجنائية (03/10/2002) وذلك بإقرار عدالة تصاليحة تنحو على محو آثار الجريمة فورا بالحفاظ على الوضعية التي كانت سائدة قبل ارتكاب الفعل وذلك لرأب الصدع الذي يمكن أن يمس العلاقات الاجتماعية بين الناس نسوق على سبيل المثال بعض هذه التدابير :
ـ إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه عندما يتعلق الأمر بانتزاع حيازة بعد تنفيذ حكم، وتقوم بهذا الإجراء النيابة العامة تحت مراقبة القضاء الذي له أن يقره أو يلغيه أو يعدله (المادتان 40 و49 ق.م.ج).
ـ رد الأشياء المحجوزة لمن له الحق فيها.
ـ الصلح بين الأطراف : هذا الإجراء هو لب العدالة وجوهرها لأنه يرأب الصدع بين الخصوم ويجبر ضرر الضحية، ويجنب الجاني المتابعة وما يترتب عنها من تلطيخ لسمعته.
ـ إيقاف سير الدعوى : في بعض الجنح إذا تنازل المتضرر أثناء سريان الدعوى العمومية يمكن للمحكمة أن تأمر بإيقاف سير إجراءاتها بناء على ملتمس من النيابة العامة (المادة 372).
ـ السند التنفيذي للنيابة العامة في المخالفات المعاقب عليها بالغرامة فقط أن تقترح على المخالف أداء غرامة جزافية لا تتجاوز نصف الحد الأقصى بمقتضى سند قابل للتنفيذ (المادة 375 ق. م.ج) وهو تدبير من شأنه التجنيب من التقييد في السجل العدلي للمخالف.
هذا وينضاف إلى هذه التدابير التي تبناها المشرع المغربي تمشيا مع المفهوم الجديد للسياسة الجنائية تبنيه أيضا لنظام الحرية المحروسة بالنسبة للأحداث حيث عهد في دائرة كل محكمة استئناف إلى مندوب أو عدة مندوبين دائمين أو مجرد متطوعين بالإشراف وتتبع الأحداث الجاري عليهم هذا التدبير وذلك للعمل على تجنيب الحدث كل عود إلى الجريمة واقتراح ما يفيد لإعادة تربيته، كما أناط القانون بهؤلاء المندوبين مهمة مراقبة الظروف المادية والمعنوية التي يعيش فيها الحدث وحالته الصحية وظروف تربيته وعمله وعلاقاته مع محيطه( ).
أما الأطفال الذين لا يتجاوز سنهم 18 سنة إذا كانوا ضحايا جناية أو جنحة فقد خول القانون للقضاء المختص تلقائيا أو بناء على ملتمس من النيابة العامة سلطة إيداع الحدث المجني عليه لدى شخص جدير بالثقة أو مؤسسة خصوصية أو جمعية ذات منفعة عامة مؤهلة لذلك أو لمصلحة أو مؤسسة عمومية مكلفة برعاية الطفولة إلى حين صدور حكم أو قرار نهائي( ).
بينما الأحداث الموجودين في وضعية صعبة أجاز القانون للقاضي المختص بناء على ملتمس النيابة العامة أن يتخذ أي تدبير يراه كفيلا بحماية الحدث المذكور الذي يقل سنه عن 16 سنة وكانت سلامته البدنية أو الذهنية أو النفسية أو الأخلاقية أو تربيته معرضه للخطر( ).
خلاصة القول إن النظرية الحديثة للسياسة الجنائية تروم إلى رؤيا شاملة لظاهرة الإجرام بالبحث والتقصي عن أسبابها ودوافعها من خلال دراسات إحصائية هادفة لكل منطقة داخل الدولة الوحيدة وإيجاد الحلول والتدابير الناجعة للحد من تفشيها ومحاربتها واجتثاتها من جذورها للحفاظ على استقرار المجتمع، وما تطوير النصوص التشريعية بالتغيير والإتمام والإلغاء سواء همت القانون الجنائي أو المسطرة الجنائية وغيرها من القوانين الخاصة التي تشتمل على مواد زجرية إلا ضرب من ضروب التدابير التي ينبغي التفكير فيها من خلال ما يتحصل من ملاحظات ومعطيات، وبيانات يتم رصدها في المجتمع والتي من شأنها رسم خطة رشيدة للوقاية من الجريمة أي الحيلولة دون وقوعها، ومعالجة آثارها بعد ارتكابها.
المطلب الثاني : دور المؤسسات العقابية
إذا كان مفهوم السجن قد اقترن منذ القدم، بالقهر والإيلام والإيذاء والتعذيب وسلب الحرية، فإن هذا المنظور التقليدي قد تغير وتغيرت معه السياسة الجنائية ومفهوم العقاب، فشرعت عدة قوانين تخص تنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، تحمل في طيها عزيمة قوية وشفافة في مجال أنسنة السجون، وإضفاء روح العدل وإعادة تربية الجانحين سواء من شروط وظروف الاعتقال والإقامة أو فيما يخص المعاملة وضروريات الحياة من صحة ونظافة ومأكل( ).
فبعد أن كانت السجون منغلقة على نفسها، وكانت ظروف وشروط التواصل مع العالم الخارجي تكاد تكون منعدمة، أصبحت المؤسسة السجنية اليوم عبارة عن مؤسسة للإصلاح والتربية وإعادة الإدماج، بناء على معايير بيداغوجية وأساليب تقنية وبرامج مركزة، ذات أهداف ومرامي محددة، تراعى فيها الجوانب الاجتماعية والإنسانية، وتحفظ فيها للمعتقل كرامته وإنسانيته، مما يدل على الإرادة القوية والعزيمة الأكيدة في الأخذ بمشعل الإصلاح دون رجعة فيه.
إن دور المؤسسات العقابية لم يعد يقتصر على عزل الجاني عن المجتمع، بل أصبح دورها يتمثل في إصلاحه، وتأهيله لحياة اجتماعية شريفة( )، لذلك فإن سياسة هذه المؤسسات في المعاملة العقابية ترمي إلى منع العودة إلى الإجرام عن طريق اتباع أساليب متخصصة في العلاج، كالتصنيف، وإيجاد رعاية إنسانية متكاملة، ومؤسسات مفتوحة وشبه مفتوحة، وتلقين النزيل مبادئ العلم والأخلاق والدين، وتعليمه مهنة يعتاش منها في المستقبل( ).
وقد ركزت الدراسات الحديثة على مبدأ الرعاية اللاحقة بعد الإفراج، بحيث لا يترك المفرج عنه من المؤسسة العقابية فريسة للعوامل التي أدت به إلى السلوك المنحرف، بل يجب العمل على إزالتها من طريقه، ومد يد العون له لإيجاد عمل أو مسكن، وحلول للمشاكل التي تقف حائلا دون دمجه في المجتمع نتيجة للفترة التي يكون قد أمضاها داخل السجن، ويتعين أن تبدأ هذه المرحلة قبل الإفراج وتستمر بعده وفق احتياجات ومتطلبات كل مفرج عنه على حدة.
إن الحديث عن المؤسسة السجينة كإطار للإصلاح والتأهيل وتواصله مع المحيط الخارجي، يصب في مقاربة تتمحور حول ركائز ثلاثة :
أولا : التواصل من أجل خلق جو ملائم للإصلاح والتأهيل وإعادة الإدماج.
ثانيا : التواصل من أجل إعداد النزيل نفسيا قبل الإفراج عنه.
ثالثا : تفعيل الدور التربوي والاجتماعي للمؤسسة السجنية وعلاقته بالمحيط الخارجي، وفعاليات المجتمع المدني.
أولا : التواصل من أجل خلق جو ملائم للإصلاح والتأهيل وإعادة الإدماج
لقد انخرطت إدارة السجون وإعادة الإدماج في برنامج جدي وفق مخطط ممنهج ومحكم، حملت فيه مشعل الإصلاح، واهتمت فيه بالدرجة الأولى بالجانب الاجتماعي للنزلاء، على مستوى مختلف الأصعدة، في إطار تقريب الفوارق بين النزيل والموظف، وتجاوز علاقة السجين بالسجان بخلق روح التواصل والتعاون والانسجام في إطار تركيز المشرع على بلورة أوراش وأنشطة مختلفة، من رياضة، موسيقى، مسرح وأوراش للرسم، وخزانة للكتب ناهيك عن رصد الإبداعات الأدبية لما لذلك من تأثير على الحس النفسي وصقل المواهب، وتحدي إشكالية الانطواء والدونية في صفوف النزلاء، وبالتالي تهييء جو ملائم لشغل الفراغ الذي قد يترك ليذهب سدى، دون تنظيم ودون أن يستثمر فيما يعود على النزيل بالنفع والفائدة، وحتى لا يكون أداة انحراف في ممارسة نشاطات ضارة كالعنف ضد باقي النزلاء ومطالعة الكتب الفاسدة والمضرة، وتعاطي المخدرات، ومطالعة الكتب المحتوية على تحطيم القيم المعنوية أو المتضمنة قصصا إجرامية أو صورا جنسية ترمي إلى الإغراء وإثارة الشهوات.
وفي هذا الإطار ركز المشرع المغربي في المرسوم التطبيقي للقانون المنظم للسجون على الجانب الاجتماعي وذلك في عدة مواد قانونية، تسهيلا للنزلاء وتمكينهم من الحصول على جميع الوسائل لإبراز مداركهم، وكفاءتهم، بالمشاركة في المناقشات والمحاضرات والندوات، وحضور الدروس تحت إشراف مربين. وقد أشار المشرع في المادة 112 من المرسوم على إمكانية استعمال كل الطرق البيداغوجية والوسائل السمعية البصرية، كما يمكن إشراك كل القطاعات الحكومية ذات الصلة بالعمل التربوي، كل ذلك بهدف التواصل من أجل خلق جو ملائم ومناسب للإصلاح، والتأهيل لنزيل المؤسسة الجسنية.
ثانيا : التواصل من أجل إعداد النزيل نفسيا قبل الإفراج عنه
إن التركيز على الجانب النفسي يعتبر من الأهمية بمكان لدى النزيل قبل الإفراج عنه تهييئا لإدماجه، من خلال توعيته وتحسيسه ومن خلال تكوينه وتأطيره وما وفر له خلال اعتقاله من أرضية تمكنه من شق طريقه في الحياة باتزان وثبات لاسترجع مكانته ودوره داخل النسيج الاجتماعي، حتى يصبح صالحا لنفسه ولغيره، وقد تحدث المشرع المغربي عن إشكالية الإعداد النفسي في المادة 120 من المرسوم بصورة صريحة حيث جاء فيها : “… غير أنه يمكن أن يقوم بمهمة التعليم المعتقلون المتطوعون الذين تلقوا تكوينا بيداغوجيا مناسبا …”.
فإمكانية إشراك النزيل في القيام بدور يمكن أن يسند إلى متخصص في مجال التعليم، هي محاولة لإعداد النزيل نفسيا لتحسيسه بأهميته وقيمة دوره، مما ينمي لديه الشعور والإحساس بالأهمية، وارتفاع الروح المعنوية لديه.
وفي هذا السياق أشار المشرع في المادة 119 من المرسوم إلى إمكانية عودة النزيل بعد إذن الإدارة لاجتياز الامتحانات في مجال التكوين المهني داخل المؤسسة التي كان معتقلا بها، بعد أن غادرها قبل انتهاء السنة الدراسية، مما يبين بجلاء ووضوح انفتاح المؤسسة الإصلاحية السجنية لتصبح مؤسسة تربوية بالمفهوم العام، فهي لم تعد المؤسسة العقابية كما كان الأمر عليه من ذي قبل، وهي سابقة تحسب للمشرع المغربي يريد بها تغيير عتاقة المنظور التقليدي للمجتمع للمؤسسة السجنية على أنها لم تعد العقابية حسب ما كان ينظر به إليها، وإنما اصبحت مؤسسة تربوية اجتماعية ذات أهداف ومرامي إصلاحية.
ثالثا : تفعيل الدور التربوي والاجتماعي للمؤسسة السجنية وعلاقته بالمحيط الخارجي، وفعاليات المجتمع المدني
إن إشكالية تفعيل الدور التربوي والاجتماعي للمؤسسة السجنية، يقتضي تدعيم جسور التواصل مع فعاليات المجتمع المدني، من هيئات ومنظمات حقوقية وتربوية ذات الاهتمام بالشأن السجني، بهدف النهوض بوتيرة الإصلاح وفق برامج ومخططات مشتركة، ترمي إلى الحد من الانحراف، توفير سبل ناجعة ميدانية، كتوفير الشغل مثلا للحاصلين على شواهد التكوين المهني من المفرج عنهم، حسب تخصصاتهم، وذلك بالتدخل لدى أرباب المقاولات وإقناعهم بتشغيل خريجي مراكز الإصلاح والتهذيب والمؤسسات السجنية، على أساس أنهم أصبحوا أشخاصا أسوياء، مما يؤدي إلى جبر النفس لدى النزيل من خلال إحساسه بالمساعدة على إمكانية الحصول على مورد للعيش، ودخل محترم يمكنه من بدء حياته من جديد مما نعتبره تدبيرا وقائيا جديا للحد من الانحراف( ).
وهذا الدعم لن يتأتى إلا بخلق وحدة للتتبع والرعاية اللاحقة التي نرى أنها تكتسي أهمية قصوى في تتبع أحوال المكونين، بعد الإفراج عنهم لتفقد أحوالهم وإمكانية إدماجهم، والإشكاليات التي تعترض سبيلهم، ولو بصفة نسبية تكون هذه الوحدة مشكلة من أخصائيين اجتماعيين، وأطر مكونة في مجال علوم التربية، لتوفرها على الآليات والأسس العلمية المتخصصة، وتشبعها بمبادئ الإصلاح وحقوق الإنسان، حتى تضطلع المؤسسة السجنية باستكمال دورها الإصلاحي الذي رفعت مشعله كفاعل أصلي في المجال التربوي ضمن باقي المؤسسات الاجتماعية الأخرى، مع التركيز على تفريغ العقلية المجتمعية، من المنظور التقليدي للدور العقابي للمؤسسة السجنية، وإقناع المجتمع بالدور التنموي للمؤسسة السجينة كفضاء للتربية، ومركز لإعادة الإدماج، وذلك من خلال خلق “أبواب مفتوحة”، وأيام دراسية أو ثقافية ومعارض مباشرة للزوار، تعرض أحدث منتوجات النزلاء في مختلف المجالات، وتنظيم ندوات ولقاءات تربوية مع التركيز على أن العقوبة الزجرية لا تشكل في حد ذاتها سوى تدبير للحرمان من الحرية وليس الهدف منها هو الإيلام والحط من كرامة وإنسانية النزيل، بقدر ما تهدف إلى إعادة تربيته وتكوينه وتلقينه للمبادئ العامة للتربية مع إعداده إلى فترة ما بعد الإفراج عنه بتمكينه من تكوين مختص، لاستعادة مكانته في المجتمع من جديد.
وفي هذا الإطار يجب الإلحاح على الاتصال مع الجهات الحكومية المكلفة بالشؤون الدينية لإيفاد موعظين دنيين متمرسين لغرض الإسهام في إلقاء الدروس الدينية والوعظ والإرشاد، وكذا الاتصال بالمصالح التابعة إلى التكوين المهني قصد التكثيف من إنشاء ملحقات لمراكز التكوين المهني داخل المؤسسات السجنية مع تجهيزها بأحدث المعدات والآليات المهنية، وكذا إعداد دورات تكوينية وإعادة استكمال الخبرة والتكوين للأطر المشرفة على التكوين المهني لمواكبة المستجدات في مجال إعداد البرامج والوسائل المستعملة على المستوى التكنولوجي والبيداغوجي( ).
وفي المجال الثقافي تكثيف الاتصال مع دور الجمعيات والمنتديات الثقافية للإسهام في عروض مسرحية ذات الطابع الاجتماعي وإقامة الندوات للتوعية والتحسيس والمعارض المشتركة لدعم الإبداعات التي تجيد بها شرائح النزلاء، لخلق روح التضامن والمساهمة في الرفع من معنوية ونفسية النزلاء، من أجل إعادة إدماجهم، ومن ثمة، نعتقد أن المؤسسة السجنية وإن كانت مركزا لتنفيذ العقوبة، فلا يمكن أن تحيد عن دورها الأساسي كفضاء للتربية ومجالا للإصلاح، مما يستدعي تضافر الجهود المبذولة مع مختلف فعاليات المجتمع المدني ذات الاهتمام بالمجال التربوي، والشأن السجني، مما يتعين معه الاهتمام به كباقي المجالات التربوية الأخرى، حتى نتمكن من رصد أسباب الانحراف ونحدد العلاجات الضرورية لها كتدبير وقائي، وذلك وفق برنامج مخطط مشترك مبني على أسس علمية ومبادئ حقوق الإنسان لما فيه خير ونفع للشأن العام.
المطلب الثالث : دور المؤسسات الاجتماعية
تحتل الوقاية من الجريمة المقام الأول ضمن اهتمامات الدول، إذ أن الاستقرار في الحياة العامة والازدهار الاقتصادي والنمو الاجتماعي، كل ذلك رهين بسلامة المواطن نفسه وحياته وماله وكيانه، والجريمة تشكل تهديدا مباشرا لهذه السلامة بما تحمله من خطر على كيان الإنسان. وبما يحدثه من اضطراب في حياته اليومية، مما يزعزع ثقته بمجتمعه ومحيطه فينقبض عنهما وتصبح نظرته لأقرانه نظرة حذر وانكماش، وخوف فتتقلص العلاقات الإنسانية، ويصبح الإنسان غريبا في محيطه، منطويا على نفسه، دائم الظن بالسوء تجاه الغير، وهذا من علامات تقهقر المجتمع الإنساني القائم أصلا على ثقة المواطنين المتبادلة، وعلى شعورهم بالأمن والاستقرار.
والوقاية من الجريمة ليست حدثا جديدا في حياة المجتمعات الإنسانية بل كانت دوما إحدى اهتمامات الدول والحكومات. إلا أنها تحت وطأة تطور الجريمة والفشل في وضع حد لتعاظمها اتخذت الوقاية سبلا جديدة تساند الوسائل التقليدية المتبعة (العقوبة، التدابير الوقائية) كي تحدث فتحا جديدا يؤمل في أن يؤدي إلى التصدي لهذه الظاهرة والحد من آفاتها( ).
ونظرا لدور المؤسسات الاجتماعية في حقل منع الجرائم والوقاية منها سنحاول تسليط الضوء على دور كل مؤسسة على حدة ومدى فاعليتها وقدرتها على التصدي لهذه الآفة.
أولا : دور مؤسسة الأسرة/البيئة العائلية
تعتبر الأسرة الخلية الإنسانية الأولى التي يتربى في كنفها الفرد، ويكتسب منها عاداتها وتقاليدها وثقافتها، وهي بذلك تشكل الأساس الأول لبناء شخصيته والتي تتأثر بكل ما يحيط بها من عوامل إيجابية أو سلبية، والتي لابد أن تؤثر بدورها على سلوكه في المستقبل.
فالبيئة العائلية الملائمة التي توفر الرعاية المطلوبة لأفرادها لاشك أنها تزودهم بالمناعة اللازمة لمنع تسرب تيارات الانحراف إلى نفوسهم وجرفهم إليها، وتدفعهم إلى التمسك بالقيم الفاضلة التي تحثهم على السلوك المستقيم والأعمال الخيرة، أما البيئة العائلية غير الملائمة وما يشوب مهمتها من قصور في التوجيه والتربية والتعليم والمراقبة تجاه أفرادها تجعل أمر وقوعهم في براثن الإجرام من الأحداث السهلة لعدم قدراتهم الكافية على تقدير نتائج تصرفاتهم وعدم تحملهم للصعوبات التي يمكن أن تواجههم، وانجرافهم وراء أهوائهم ورغباتهم غير مبالين بالقيم الأخلاقية والضوابط الاجتماعية والقانونية.
ويجمع علماء الإجرام على أهمية دور البيئة العائلية بالنسبة للأحداث، ويرى أن بوادر الانحراف تظهر في حالات كثيرة في سن مبكرة، وقد تنمو وتترعرع في ظل ظروف عائلية وخارجية سيئة إلى أن تصل إلى حد الجريمة المستهجنة والتي لا يمكن تدارك مخاطرها عند وقوعها، كما أن الدراسات دلت على أن السلوك المنحرف عند المجرمين البالغين كان يلاحظ في مرحلة حداثتهم بشكل أو بآخر، كالتمرد على سلطة الوالدين، والتصرف السيء والتواجد في أماكن الفساد واللهو.
ولأهمية دور البيئة العائلية في تكوين شخصية الإنسان وتوجيه سلوكه ورعايته، فإنه يتعين دعمها بالمقومات اللازمة للمحافظة على كيانها المادي والمعنوي لإبعاد شبح الإجرام عن المجتمع، وذلك عن طريق توفير الوسائل الضرورية لوجودها واستقرارها، كنشر برامج التوعية الشاملة ومحو الأمية بين أفرادها، والسعي لإيجاد مسكن مناسب لها، وتوفير الخدمات الصحية والخدمات التعليمية على أن تكون بقدر الإمكان مجانية، وتأمين عمل للمسؤول عن إعالتها من شأنه أن يلبي حاجياتها في العيش الكريم، ويبعدها عن شبح الفقر والحرمان الذي يقف في حالات كثيرة وراء تفككها وانحرافها( ).
ثانيا : دور المدرسة
المدرسة ذلك المجتمع المنظم الكبير بعد الأسرة، يمضي فيه الإنسان معظم وقته ومرحلة أساسية وطويلة من عمره، يتلقى في ظله العلوم المختلفة التي يجب أن تساعده على رسم طريقه في الحياة، ويصادف تشعب العلاقات والسلوك مع أفراد آخرين، ويشكل له حقل اختيار لقدراته وإمكاناته، ويتعرف إلى القوة التي تسود العالم الخارجي والتي تفرض عليه أوضاعا جديدة لم يألفها من قبل.
والمدرسة التي قامت في الأصل على تزويد الطلاب بالعلوم الإنسانية أصبح من ضمن رسالتها بناء شخصيتهم الاجتماعية بطرق مختلفة، كتلقينهم مبادئ الأخلاق والتربية المدنية، وتعويدهم على السلوك المطابق للقانون وتشجيعهم على ممارسة النشاطات والهوايات المتنوعة ومنها النشاط الرياضي الذي من شأنه أن ينمي روح الثقة والتعاون لديهم، ويجعلهم يشتغلون أوقات فراغهم بشكل مجد.
والمعلم قبل غيره قد يلاحظ بوادر الانحراف عند الطالب، لذلك يجب العمل على توثيق الصلة بين المعلم والطالب من جهة، وبين المدرسة والبيت من جهة أخرى، من أجل علاج هذه البوادر وتوقي مخاطرها قبل استفحال أمرها، فإذا عانى الطالب خيبة مستمرة في الدراسة فيتعين إيجاد حل له يتناسب مع قدراته، حتى لا تصبح هذه المشكلة سببا في تحوله إلى طريق الانحراف، وإذا عانى من عدم قدرته على التكيف مع الجماعة داخل المدرسة فيجب توجيه الاهتمام إلى هذا الجانب حتى لا تتكون لديه شخصية منطوية ومنعزلة عن الآخرين قد لا تقوى على مواجهة شؤونه، فيندفع في طريق الإجرام، وإذا اتصف سلوكه بالتمرد وعدم التقيد بالأنظمة الداخلية في المدرسة، فيجدر توعيته وإقناعه بسلوكه الخاطئ، حتى لا تتكون لديه ردود فعل سلبية تزيد في تمرده وتصرفه السيء.
وباختصار فإن دور المدرسة يقوم على ثلاث ركائز أساسية تتمثل في المناهج التعليمية والتربوية والتثقيفية العامة المناسبة، وفي الجهاز البشري المتخصص الذي يتولى الإشراف عليها وتزويد الطلاب بها، وفي البناء الملائم وما يلحق به من ملاعب ومكتبات لممارسة النشاطات المتنوعة، فتحقيق هذه المزايا من شأنها أن توفر بيئة صالحة للتربية والتعليم، وتحد وتعطل من فرص الإجرام في المجتمع.
ثالثا : دور المؤسسات الترفيهية والرياضية
يشكل الفراغ في حياة الفرد عاملا سلبيا إذا لم يملء بصورة مفيدة وبناءة متجاوبة مع رغباته وتطلعاته واهتماماته الشخصية، وقد أثبتت تقارير عديدة أن معظم الشبان والأولاد التي أقدمت على ارتكاب بعض الجرائم تألفت بسبب الفراغ النفساني الذي شعر به هؤلاء فجمعهم ليؤلف فيما بينهم مجتمعا مصغرا ناقما على الحياة العامة مؤثرا بالأعمال الإجرامية اللافتة للنظر تأثرا من الأوضاع القائمة.
لذلك كان الاهتمام الكلي ضمن البرامج الوقائية العامة بتنظيم أوقات الفراغ والنشاطات الاجتماعية، والرياضية بحيث تصبح الرابط الوثيق بين الشباب والأحداث فتوجههم الوجهة الصحيحة من خلال إثارة اهتماماتهم وتلبية حاجاتهم النفسانية والجسدية.
هذه النشاطات تتوجه للشباب والأحداث بصورة عامة كما أنها تتوجه لتلك الفئات منهم المعرضة لخطر الانحراف، أو التي انحرفت وأخضعت لبرامج تربوية وتوجيهية( ).
رابعا : دور البيئة المهنية وأرباب العمل
يعتبر عنصر العمل من العناصر الأساسية في حياة الإنسان لأنه يتيح له الانصراف إلى إشباع حاجاته ورغباته بأساليب مشروعة، لذلك فإن القضاء على البطالة من أبرز المسائل التي تعمل الدول حاليا على محاربتها حتى تتمكن من الحد من فرص الإجرام خاصة بالنسبة للجرائم المتعلقة بالأموال.
وينبغي أن لا ينفصل العمل عن توفير الظروف الملائمة للقيام به، كالحماية من مخاطره، وتناسبه مع قدرات الشخص وإمكاناته والحصول على أجر مناسب، والتكيف في بيئته، وعلى السلطات العامة أن تشرف على تحقيق هذه الأمور عن طريق وضع التشريعات المتعلقة بها لإرساء ضمانات ثابتة تشيع الاستقرار وتمنع الصرف التعسفي من العمل( ).
ونظرا لأن مقر العمل هو الآخر شأنه شأن الأسرة أو المدرسة يعتبر مجالا لإظهار خصال الفرد ووجود الشذوذ فيه، فعلى أرباب العمل في كل ميدان من ميادينه، أن يراقبوا العاملين فيه وأن يبلغوا أمر الشواذ من بينهم إلى مركز اجتماعي لعلاج المرضى المعوزين سواء من أمراضهم الجثمانية أو من أمراضهم النفسانية، أو أن يبلغوا أمرهم إلى مركز الطب التربوي العلاجي إن كانوا عمالا أحداثا، فيقرر هذا المركز ما يلزم في شأن أولئك الأحداث من إجراءات علاج ووقاية.
ويتعين على أرباب العمل أنفسهم أن يتقوا الله في شأن الصغار المعهود بهم إليهم، وألا يسيئوا معاملتهم أو يتطاولوا عليهم بالسب، أو يتخذوا منهم أدوات مسخرة دون وزن لاعتبارات تعليمهم المهنة تمهيدا لممارستهم إياها( ).
خامسا : دور وسائل الإعلام
لاشك أن أجهزة الإعلام تلعب دورا هما في توجيه الرأي العام وتوعيته، وبالتالي متابعة سير الأحداث والتنبيه إلى مخاطرها، وقد دعمت هذه الأجهزة سرعة الاتصال بين المجتمعات كافة والاطلاع على شؤونها وما يدور فيها، بحيث بات أي حدث في أي مكان ينتقل خلال ثوان عن طريقها إلى مختلف أنحاء العالم.
ولم ينكر أحد دور الإعلام في ميدان الإجرام، فقد دلت الإحصاءات التي أجريت على المنحرفين خاصة من كان منهم في سن الحداثة أنه كان للسينما الأثر البالغ في ارتكابهم الأفعال المخالفة للقانون، وذلك عن طريق تأثرهم بمشاهد الفيلم ومحاولة تمثيل هذه المشاهد على أرض الواقع، والتي كانت تظهر بشكل أساسي من خلال مشاهد أفلام الجنس والعنف التي كانوا يترددون عليها.
كذلك فإن إيراد أخبار الجرائم في الصحف والمجلات بطريقة تثير الدهشة والإعجاب بمرتكبيها، وتصويرهم على أنهم يملكون القوة للإفلات من العقاب، وتخصيص مساحات كبيرة لعرض وقائعها بأسلوب شيق دون التركيز على ضحاياها وما يترتب عليها من نتائج خطرة حتى بالنسبة للجاني من شأنه أن يشبع بعض ذوي الإرادات الضعيفة على الإجرام، لعدم تقديرهم لمخاطرها، ولاعتقادهم بأنهم يمكن أن يتلقوا العفو والرحمة أو يمكن أن يتستروا عن أعين رجال الأمن ويتخلصوا من آلام العقوبة.
وإذا كانت الدراسات قد ركزت في السابق على السينما والصحافة بشكل رئيسي، فيجب أن تتناول مختلف الأجهزة المسموعة والمرئية كالإذاعة والتلفزيون والفيديو والمحطات الفضائية خاصة وأنها دخلت كل بيت تقريبا في هذا العصر.
ويتلخص دور وسائل الإعلام في الوقاية من الجريمة بعرضها للبرامج الاجتماعية والإنسانية التي تقوم على التوعية والتوجيه والتربية والتمسك بالقيم والمثل العليا، والطرق المشروعة للعيش، والتركيز على إبراز مخاطر الإجرام وانعكاساته السلبية على شتى نواحي الحياة، ومن ثم توجيه الرأي العام إلى محاربته ونبذه، وإجراء مراقبة دقيقة لكل البرامج قبل عرضها، وذلك من قبل سلطة مختصة تتولى هذه المهمة لاختيار ما يتناسب منها مع نظرة المجتمع في تحقيق أهدافه بالاستقرار والنمو والتطور.
سادسا : دور الشرطة
قد يتبادر إلى ذهن أن دور الشرطة يقتصر على التصدي للجريمة بعد وقوعها، ولكن هذا المفهوم التقليدي تلاشى بفعل تطور هذا الدور وتوسيع نطاقه. وتأثره بالنظريات الجنائية الحديثة التي تبنت مبدأ رعاية وإصلاح المجرم والوقاية من الجريمة بوجه عام.
ودور الشرطة في مجال الوقاية يمكن أن يتمثل في أساليب مختلفة، فظهور أفرادها لا يقتصر على الشوارع العامة، بل في الأمكنة التي قد تعتبر مصدرا لوقوع المخالفات، كمحطات سكك الحديد، والحانات وأماكن الاستعراضات والاحتفالات، والمحلات التجارية، والمؤسسات الاقتصادية ولا تتناول مهمتها فقط الكشف عن الجريمة كالنشل وغيره، بل أيضا التواجد فجأة لمنع وقوعها وإنقاذ ضحاياها.
ومراقبة الشرطة الدائمة لسير الحياة العامة يجعل أمر الاستعداد للجريمة وتنفيذها في غاية الصعوبة كما تحقق بصورة غير مباشرة القبض على الفارين من وجه العدالة، وعلى المتمردين، وعلى اللذين تظهر في تصرفاتهم بوادر انحراف مما يدعم عملية التوقي من وقوع الجرائم.
ويمكن للشرطة أن تقوم إلى جانب ذلك بدور التقصي عن ظروف الجريمة ودوافعها، مما يسهل عملية توقيها في المستقبل، كما يمكن أن تساهم في دور الرعاية اللاحقة بعد الإفراج عن السجين والتي من شأنها إبعاده عن العوامل المفسدة، إضافة إلى مهمتها في تأهيله وإصلاحه داخل المؤسسة العقابية.
وتلعب الشرطة دورا إيجابيا في تنظيم الهجرة والتنقل بحيث تحول دون انتشار الجريمة، وتشارك مع الأجهزة المعنية الأخرى في مكافحة الإجرام، وفي التخطيط في مجالات التعمير، وفي صياغة القوانين التي تعالج الجريمة، وفي الرقابة على الإنتاج الأدبي والفني، وفي التوعية العامة لدورها.
وتركز الاتجاهات الحديثة على الإعداد العلمي لرجل الشرطة حتى يستطيع أن ينجح في مهمته، وعلى الاستعانة بالشرطة النسائية في المجالات التي تستطيع فيها أن تؤدي دورها بنجاح، لأن الجريمة ليست قصرا على الرجال وإن كانت نسبتها الغالبة ترجع إليهم.
______________________________
( ) السياسة الجنائية الأمنية والتعاون الدولي للأستاذ د. عبد اللطيف أزويتني الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بسطات، والأستاذ لحمد الضاوي النائب العام لدى نفس المحكمة، منشورات جميعة نشر المعلومات القانونية والقضائية، سلسلة النصوص القانونية، ص. 145.
( ) السياسة الجنائية بالمغرب : واقع وآفاق، جمعية نشر المعلومات القانونية والقضائية، سلسلة الندوات والأيام الدراسية، العدد 3، 2004، ص. 146.
( ) ذ. عبد الحفيظ بلقاضي : مدخل إلى الأسس العامة للقانون الجنائي، الجزء الأول.
( ) د. عبد الحفيظ بلقاضي، نفس المرجع السابق.
( ) الموسوعة الجنائية لجندي عبد المالك، الجزء الخامس، طبعة ثالثة، ج. 2، ص. 69.
( ) راجع قانون 03/02 وتاريخ 11/11/2003 المتعلق بدخول وإقامة الأجانب بالمغرب وبالهجرة غير المشروعة.
( ) راجع المواد 484 إلى 503 مكرر مرتين من مجموعة القانون الجنائي المغربي (قانون رقم 03/02) وتاريخ 11/11/2003.
( ) راجع المادتين 303 و303 مكرر من مجموعة القانون الجنائي المغربي (قانون رقم 00/38 بتاريخ 15/02/2001).
( ) راجع المواد 607 مكرر من ثلاث مرات إلى المرة الحادية عشر (قانون رقم 03/07 وتاريخ 11/11/2003).
( ) راجع القانون رقم 03/03 بتاريخ 28/05/2003 المتعلق بمكافحة الإرهاب والذي أضيف بمقتضاه إلى الجزء الأول من الكتاب الثالث من مجموعة القانون الجنائي باب أول مكرر تحت عنوان “الإرهاب” (المادة 218 ق.ج). كما أضيف إلى القانون الجنائي من الجزء الأول من الكتاب الأول من مجموعة القانون الجنائي مادتان هما 44 مكررة و44 مكررة مرتين كما تمت بمقتضاه أحكام مسطرية وهي المواد 59، 62، 79، 102، 108، 115 قانون المسطرة الجنائية.
( ) راجع المواد 496 إلى 500 من قانون المسطرة الجنائية.
( ) راجع المادتين 510 و511 من قانون المسطرة الجنائية.
( ) راجع المواد 471 و512 من قانون المسطرة الجنائية.
( ) موضوع بحث في إطار مشروع رؤى جديدة للإصلاح الجنائي مرفق بعدة مقترحات سيتم عرضه في حينه.
( ) مجلة إدماج، مرجع سابق، العدد التاسع، 2004.
( ) العوجي مصطفى : الاتجاهات الحديثة للوقاية من الجريمة، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض.
( ) د. علي محمد جعفر : الإجرام وسياسة مكافحته، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ص. 240 ـ 242.
( ) رمسيس بهنام : الكفاح ضد الإجرام، طبعة 1966، ص. 33.
( ) د. محمد علي جعفر : الإجرام وسياسة مكافحته، المرجع السابق، ص.
( ) رمسيس بهنام : الكفاح ضد الإجرام، المرجع السابق، ص. 43