إن مجرد الاعتراف بكون النيابة العامة كجهاز ينتصب على أساس أنه طرف أصلي في الدعوى العمومية، أي خصما في تلك الدعوى يعتبر حيفا بالمتهم وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: أن النيابة العامة كجهاز لها سلطات على المتهم وهذا ما لا يبرره شيء كيفما كان، فإن الخصم «النيابة العامة» له سلطة إعداد الأدلة ومواجهة الخصم بها وكذلك ممارسة بعض السلطات وإن كانت استثنائية فلا يبرر ذلك ارتكابها من طرف هذا الخصم، وهذه السلطة تتمثل في إيداع المتهم بالسجن فكيف لشخص موضوع تحت رقابة هذا الجهاز أن يثبت براءته؟ بينما خصمه مطلوق السراح يبحث عن أدلته علاوة على كون هذا الخصم يتكون من جهاز كامل يخضع للدولة وما يترتب عن ذلك من إمكانيات مادية وبشرية في مواجهة ذلك الخصم الوحيد والذي لا حول له ولا قوة. ويعتبر تكافؤ الوسائل بين أطراف الدعوى العمومية كشرط أساسي من شروط المحاكمة العادلة، الذي يقتضي أن توضع رهن إشارة المتهم نفس الوسائل الموضوعة بيد النيابة العامة للمشاركة في أعمال التحقيق بما تخوله من حق في الاطلاع على المسطرة وإمكانية الاعتراض على الأوامر القضائية( ).

الجهة الثانية: إن النيابة العامة كجهاز يتمتع بالأفضلية على المتهم من حيث الموقع والقوة، فموقعها إلى جانب القاضي يعتبر أكثر مساس بالعدالة والمساواة بين الأطراف المتخاصمة حيث يعترف للنيابة العامة بالجلوس إلى جانب قضاة الحكم بينما يبقى المتهم في قفص الاتهام إلى حين استدعائه إلى منصة الشهود لاستجوابه، ناهيك عن تعامل أمن المحكمة مع هذا المتهم بفضاضة داخل ذلك القفص وقد بين المشرع أن المتهم يجب ألا يمثل أمام المحكمة إلا وهو مطلق السراح غير مقيد وهذا يعني بداهة علم المشرع بالانتهاكات التي تتم داخل قفص الاتهام حيث يكون المتهم محكوما عليه بأنه الفاعل من طرف أعضاء الأمن حتى قبل صدور الحكم، ونحن ومن هذا المنبر ومعنا بالطبع جل إن لم نقل كل الحقوقيين في كل البلاد نطلب من المشرع التدخل وإلغاء هذا الفرق اقتداءا بأغلب التشريعات الحالية سواء الغربية “فرنسا وأمريكا” أو بعض الدول العربية «كمصر والسودان والأردن» خاصة وأن فرنسا قد ذهبت بعيدا في هذا المجال حيث ألزمت قضاة النيابة العامة بارتداء زي المحامين باعتبارها محامي العامة أو محامي الشعب وهذا ما لا نراه في قانون المسطرة الجنائية بالمغرب، حيث يتمتع قاضي النيابة العامة بامتياز ارتداء زي قضاء الحكم.
فكيف لخصمين يتمتع أحدهما بكل الامتيازات المذكورة ولا يتمتع الآخر حتى بحق السراح المؤقت وإن كان يتوفر على ضمانات، حيث نص المشرع على أن النيابة العامة يمكنها أن تمتع المتهم بالسراح المؤقت إذا ما توفرت فيه ضمانات كافية للحضور مع الإشارة إلى أن المشرع نص في المادة 74 الفقرة الثانية على أنه «… كما يمكنه أن يعرض تقديم كفالة مالية أو شخصية مقابل إطلاق سراحه» ومعنى هذا النص أن كلا من الكفالة المالية والكفالة الشخصية تعتبر كضمان يمكن للنيابة العامة أن تخلي سبيل المتهم إذا ما توفر أحدها وإن كانت هذه الضمانات وردت على سبيل المثال لا الحصر، ولكن ومن حيث الواقع نجد أن النيابة العامة استغلت هذه السلطة إلى أبعد حد كنوع من أنواع التعسف في استعمال السلطة دون أي حسيب أو رقيب فيكفينا علما أنه فعليا وواقعيا أن النيابة العامة لم تصدر قرار إطلاق سراح أي متهم بناءا على الضمانات التي قدمها مهما كانت قوة هذه الضمانات بحجة عدم كفايتها في نظر هذه الأخيرة وهذا ما يجعلنا نتطلع إلى تعديل المشرع لعبارة وردت في المادة 74 الفقرة الأولى كانت هي سبب هاته الإشكاليات حيث نصت تلك المادة على أنه «… أو إذا لم تتوفر في مرتكبها ضمانات كافية للحضور، كما يمكنه أن يقدم للمحكمة حرا بعد تقديم كفالة مالية أو كفالة شخصية» فكون المشرع أورد كلمة “يمكنه” يعني أن للنيابة العامة الخيار في أمر منح السراح من عدمه وهذا بالضبط ما نتطلع إلى إلغائه وذلك بإبعاد هذه الكلمة والنص على إجبارية الأخذ بهاته الضمانات إذا ما جاءت كما نص عليها المشرع.
وتحتم علينا الأمانة العلمية أن نذكر بعض الأقوال التي تتردد في الشارع من ألسنة العامة أو حتى بعض الحقوقيين على اعتبار أن النيابة العامة في مسطرة استدعاء الشهود حسب آراءهم تستدعي شهود الإثبات فقط وأن شهود النفي يقدمون من طرف محامي المتهم. وهذا ما يبرر تسمية النيابة العامة في الشارع المغربي بإسم “الغراق” وهذا عكس ما ينبغي أن يكون حيث يفترض في النيابة العامة بحثها عن الحقيقة وتقديم جميع ما يثبتها من شهود إثبات أو نفي بل الأحرى بها أن تقدم أولوية لشهود النفي على شهود الإثبات اعتبارا لكونها نزيهة واعتبارا لإرساء المشرع لمبدأ البراءة المفترضة وتنصيصه عليه في الفصول الأولى من المسطرة الجنائية، إلا إذا كان هذا المبدأ من باب الحبر على الورق ليس إلا. وهذا إن كان يدل فإنما يدل على الطبيعة المتناقضة للنيابة العامة من حيث الواقع والقانون.
________________________________
- الأستاذة شادية السومي:”المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية” عدد 44-45، ماي -غشت 2002، ص82