إن قيام النيابة العامة بتقديم ملتمس بإجراء تحقيق يطرح عدة إشكالات أهمها يتعلق بمدى تحكمية النيابة العامة في تقديم الملتمسات؟ ومن تم المشكل الذي يطرحه هذا الملتمس بالنسبة لقاضي التحقيق؟ ولما لهذا التحقيق من دور في إظهار براءة المتهمين وبالتالي تأثيره على قرينة البراءة من خلال السلطات التي تمارس أثناءه. فإننا ارتأينا أن نفصل في هذه النقطة بشيء من الإيجاز:
فقد نصت المادة 83 من قانون المسطرة الجنائية على ثلاث أشكال لسلطة النيابة العامة في تقديم ملتمس هي”:

الفقرة الأولى: إجبارية التحقيق:
حيث تكون النيابة العامة مجبرة بتقديم ملتمس بإجراء تحقيق إلى قاضي التحقيق بناءا على المادة المذكورة في حالات هي:
- كون الجريمة معاقبا عليها بالإعدام، أو بالحبس المؤبد أو السجن لمدة 30 سنة.
- الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث.
- الجنح بنص خاص في القانون.
إن المشكل المطروح بالنسبة لهاته الحالات هو كون النيابة العامة هي التي تحدد وتكيف الأفعال ومن تم تعتبرها داخلة في نطاق هاته الحالة أم لا. وهذا يعني بداهة أن هذه المادة ألزمت النيابة العامة فقط بتقديم الملتمس إذا ما قامت بتكييف الفعل ليدخل ضمن الحالات السابقة، إذ أنه وفي هذه المادة تعتبر الحالة الأولى وهي (الجنايات المعاقبة بالإعدام أو المؤبد أو السجن لمدة 30 سنة) بمثابة الاختبارية لأن النيابة العامة تستطيع اعتبار الجريمة لا تصل إلى ذلك الحد من العقوبة في نظرها، أما الحالة الثانية فلا يستطيع قاضي النيابة العامة إلا أن يقوم بما هو محتم عليه نظرا لوجود أسباب قانونية محددة من طرف المشرع كوجود حدث مثلا فلا شأن لتكييف النيابة العامة في هذه الحالة. أما الحالة الثالثة فإنها تعاني بعض القصور من حيث أن النيابة العامة تكيف الفعل الجرمي حيث يمكن لها أن تتلاعب بالتكييف وتسمي الفعل بغير إسمه لتتلافى تطويل مسطرة المحاكمة بإجراء تحقيق.

الفقرة الثانية: اختيارية التحقيق:
نصت المادة 83 في فقرتها الأخيرة على أنه «يكون اختياريا (التحقيق) فيما عدا ذلك من الجنايات وفي الجنح المرتكبة من طرف الأحداث أو في الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات أو أكثر».
إن ما يشد انتباهنا في هذا النص كونه أورد كلمة “الحد الأقصى” والتي تحيلنا على مفهوم آخر للنص من خلال هاته الكلمة ففضلا عن باقي الجنايات والجنح المرتكبة من طرف الأحداث، نجد باقي الجنح والتي اتجه الفقه( ) إلى اعتبارها قابلة لإجراء تحقيق من الناحية القانونية إذا ما كانت العقوبة المقررة للجنحة كحد أقصى خمس سنوات أو أكثر وهذا يعني أن الفقه قام بإقصاء الجنح التي لا تصل عقوبتها إلى خمس سنوات مع أن منطوق النص يدل على إمكانية هذا التحقيق، فمعنى كلمة حد أقصى تعني أننا نبتدئ من أدنى حد إلى الحد الأقصى مع عدم تجاوز هذا الحد الأقصى أي أن التحقيق يمكن أن يسري في جميع الجنح التي لا تصل إلى 5 سنوات أو أكثر.
وإننا نعلم أن ما ذهب إليه الفقه هو الذي قصده المشرع، لكننا نود لو أننا نستطيع استغلال الخطأ الذي وقع فيه المشرع وبالتالي تدعيم موقف المتهم وإعطائه مهلة أكبر للتحقيق حتى تتبين الحقيقة.
فلو أن المشرع استخدم لفظ “الحد الأدنى” بدلا من “الحد الأقصى” لكان ما ذهب إليه الفقه هو التفسير الصحيح والمنطقي، وبما أن (المشرع) أغفل ذلك نستطيع أن ننبه الفقهاء إلى الدور الذي يستطيعون أن يلعبوه في تحقيق نوع من التوازن وإعادة الأمور إلى نصابها حسب ما كان في ظل القانون القديم للمسطرة الجنائية 1959.

الفقرة الثالثة: المنع من تقديم ملتمس:
لم تكن هاته الحالة موجودة في قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 وهذا يعني تراجع المشرع عن مكتسب مهم نوعا ما بالنسبة للبعض، فقد أهمل المشرع ذكر المخالفات في المادة 83 والتي تعني وبمفهوم المخالفة أنه لا يمكن إجراء تحقيق بالمرة وحسب الفقه فإن باقي الجنح والتي لا يصل الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها إلى 5 سنوات، فهي تعتبر من الحالات التي يمنع فيها إجراء تحقيق. وحسبنا أن نذكر بما سبق ذكره من محاولتنا إلى استغلال أخطاء المشرع وهفواته بما يفيد المتهم إعمالا لروح النصوص القانونية والتي تنادي بأن الشك يفسر لصالح المتهم. ورغم أن المفروض في التحقيق أنه يهدف إلى مصلحة المتهم إلا أنه قد يضر بمصالح آخرين نظرا للطبيعة التي أعطاها المشرع لهذا التحقيق، فما هي هذه الطبيعة؟ وما تأثيرها على قرينة البراءة؟
«يحق لقاضي التحقيق توجيه التهمة لأي شخص بصفته فاعلا أصليا أو مساهما أو مشاركا في الوقائع المعروضة عليه بناءا على ملتمس النيابة العامة.
إذا علم قاضي التحقيق بوقائع لم يشر إليها في ملتمس إجراء التحقيق يتعين عليه أن يرفع حالا إلى النيابة العامة الشكايات والمحاضر المتعلقة بها».
هذا منطوق المادة 84 الفقرتين الثالثة والرابعة.
حيث أكدت الفقرة الثالثة على عدم شخصية التحقيق أي أن قاضي التحقيق ليس ملزما بالتحقيق فقط مع الأشخاص الذين حددتهم النيابة العامة في الملتمس، بل يمكن أن يتوسع قاضي التحقيق ليشمل هذا التحقيق أشخاصا آخرين وهذا يعني في نظرنا زيادة عدد المتهمين وما يستتبعه ذلك من إهدار لقرينة البراءة بالنسبة لكل متهم. بينما تدل الفقرة الرابعة من هذا النص على أن التحقيق يكتسي صبغة العينية حيث يجب على قاضي التحقيق الالتزام بعين الجريمة والوقائع التي أوكل له وكيل الملك أو الوكيل العام للملك القيام بالتحقيق فيها كنوع من أنواع الفصل بين سلطة التحقيق والمتابعة حيث يجب على قاضي التحقيق أن يقوم بإبلاغ النيابة العامة في حالة وجود وقائع لم تتم الإشارة إليها في الملتمس المقدم إليه، انتظار إدراج ملتمس تكميلي يخص تلك الأفعال واعتبارا لكون التحقيق من النظام العام حسب الفقه وكذلك لكونه من الحقوق والضمانات الممنوحة للمتهم فإننا نتساءل عن سبب وضع حق من حقوق المتهم بيد خصمه النيابة العامة في الحالات التي يكون فيها التحقيق اختياريا هذا من جهة، إضافة إلى كون المشرع حرم المتهم من هذا الحق في الحالات التي يمنع فيها إجراء تحقيق.