العرف بين الشرع والقانون
العرف: هو ما اعتاده الناس وساروا عليه من كل فعل شاع بينهم، أو لفظ تعارفوا إطلاقه على معنى خاص لا تألفه اللغة، ولا يتبادر غيره عند سماعه.
وقد شمل هذا التعريف العرف العملي، والعرف القولي، وكل منهما إما عرف خاص أو عرف عام.
فالعرف العملي: هو ما اعتاده الناس في أفعالهم العادية أو معاملاتهم المدنية، مثل اعتيادهم أكل نوع معين من اللحوم أو الحبوب أو استعمال نوع خاص من الملابس والأدوات ونحوها، وتعارفهم قسمة المهر إلى معجل ومؤجل، وتعاملهم ببيع المعاطاة من غير وجود صيغة لفظية تدل على الإيجاب والقبول.
والعرف القولي أو اللفظي: هو استعمال الناس بعض الألفاظ أو التراكيب في معنى معين لا تألفه اللغة، مثل تعارفهم إطلاق الولد على الذكر دون الأنثى، وعدم إطلاق لفظ (اللحم) على السمك، وإطلاق لفظ (الدابة) على الفرس.
والعرف العام: هو ما يتعارفه غالبية أهل البلدان في وقت من الأوقات، مثل تعارفهم عقد الاستصناع، واستعمال لفظ (الحرام) بمعنى الطلاق لإزالة عقد الزواج، ودخول الحمام من غير تقدير الأجرة، أو مدة المكث، أو مقدار الماء المستهلك.
والعرف الخاص: هو ما يتعارفه أهل بلدة أو إقليم أو طائفة معينة من الناس، كإطلاق كلمة (الدابة) في عرف أهل العراق على (الفرس)، واعتبار دفاتر التجار حجة في إثبات الديون.
والعرف في اعتبار الشرع إما صحيح أو فاسد.
العرف الصحيح: هو ما تعارفه الناس دون أن يحرم حلالاً، أو يحل حراماً كتعارفهم تقديم عربون في عقد الاستصناع، وأن الزوجة لا تنتقل إلى بيت زوجها إلا بعد قبض جزء من المهر، وأن المهر قسمان: معجل ومؤجل، وأن ما يقمه الخاطب أثناء الخطبة يعتبر هدية، وليس جزءاً من المهر.
وأما العرف الفاسد: فهو ما تعارفه الناس ولكنه يحلّ حراماً أو يحرم حلالاً، كتعارفهم أكل الربا، والتعامل مع المصارف بالفائدة، والمقامرة باليانصيب، واختلاط النساء بالرجال في الحفلات والأندية العامة، وتقديم الخمور والأنبذة، وإقامة محافل الرقص في الأفراح والحفلات، ترك الصلاة في الاحتفالات العامة.
وقد شرط الفقهاء شروطاً في العرف الذي يجوز في الشرع اعتباره والعمل بمقتضاه، من أهمها ألا يعارض نصاً شرعياً في القرآن أو في السنة، وأن يكون مطرداً أو غالباً أي مستمراً العمل به في جميع الحوادث، أو يجري العمل عليه في أغلب الوقائع. وبهذا يفترق عن الإجماع، فإن الإجماع مبناه اتفاق مجتهدي الأمة الإسلامية، أما العرف فلا يشترط فيه الاتفاق، وإنما يكفي فيه سلوك الأكثرية بما فيهم العوام والخواص، فهو لهذا أشبه بالسيرة.
وللعرف أهمية كبرى في مختلف التشريعات وعند كل الأمم، لذا يعتبر في القانون الوضعي أحد مصادر التشريع، بل إن كثيراً من نصوص القانون وأحكامه الآمرة أو المتعلقة بالنظام العام إنما هي مترجمة عن العرف الشائع في البلاد.
أما في الإسلام فهو عند التحقيق ليس دليلاً شرعياً مستقلاً، لأنه مبني في الغالب على مراعاة الضرورة أو الحاجة والمصلحة، أو دفع الحرج والمشقة، والتيسير في مطالب الشرع.
قال الشاطبي: العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعاً، كانت شرعية في أصلها، أو غير شرعية، أي سواء اكانت مقررة بالدليل شرعاً أمراً أو نهياً أو إذناً، أم لا. أما المقررة بالدليل فأمرها ظاهر. وأما غيرها، فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك، لأن الشارع لما جاء باعتبار المصالح كما هو معلوم قطعاً، لزم القطع بأنه لابد من اعتباره العوائد، لأن أصل التشريع سببه المصالح، والتشريع دائم، فالمصالح كذلك، وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع، ووجه آخر، وهو أن العوائد لو لم تعتبر لأدى إلى تكليف ما لا يطاق، وهو غير جائز أو غير واقع.
ونطاق تأثير العرف عند الفقهاء يتحدد في أنه حجة في تفسير النصوص التشريعية، وقد يراعى في تشريع وتوليد وتعديل الأحكام، وبيان وتحديد أنواع الإلزامات والالتزامات في العقود والتصرفات والأفعال العادية حيث لا دليل سواه.
وعلى هذا فقد يترك النص الخاص ويؤخذ بالعرف عند الضرورة، وقد يخصص النص بالعرف أو تعامل الناس، وقد يقيد إطلاقه به، وقد يترك به القياس الاجتهادي أو الاستصلاح الذي لا يستند إلى نص، بل إلى مجرد المصلحة الزمنية، لأن العرف دليل الضرورة أو الحاجة، فهو أقوى من القياس ونحوه.
ومن الأدلة الشرعية على اعتبار العرف قول ابن مسعود (رض): ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيئ))، وقد قال العلماء: ((الثابت بالعرف كالثابت بالنص))، ((العادة محكَّمة)) أي معمول بها شرعاً.
وهناك كلام كثير عن العرف موضح في كتب القواعد والأصول. والذي يهمّنا هنا: هو أن الضرورة أو ما في حكمها كالحاجة، قد تكون باعثاً على تكوين العرف، فكثير من الأعراف ينبني على أساس من المشقة تستوجب التيسير في الحكم الشرعي، وعندئذ يكون العرف سبباً من أسباب إباحة الفعل أو تغيير الحكم، لأن في عدم اعتبار العرف حرجاً عظيماً على الناس، قال ابن عابدين: ((كثير من المسائل الفقهية ما يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه، بحيث لوك ان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولاً، ولهذا قالوا (أي العلماء) في شروط المجتهد: إنه لابد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً، لزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام. ولهذا ترى مشايخ المذهب (أي الحنفي) خالفوا ما نصَّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه)).
ومن أمثلة العرف للضرورة أو للحاجة ما يأتي:
1 ـ أجاز المالكية، والحنفية على الراجح عندهم بيع الثمار المتلاحقة الظهور، وهي التي يظهر بعضها أولاً، ثم يظهر البعض الآخر تدريجاً كالبطيخ، والباذنجان، والعنب، والتين، والموز، والقثاء، ونحو ذلك، للتعامل به عرفاً للضرورة، مع أن بعض المبيع بيع لمعدوم، ومن المعلوم أن بيع المعدوم باطل، لما روى ابن عباس أنه قال: ((نهى رسول الله (ص) أن تباع ثمرة حتى تُطعِم، ولا يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع)).
2 ـ أباح الشرع أو الفقه زمرة من العقود كعقود الاستصناع، والإجارة، والسلَم، والمعاطاة، ودخول الحمام من غير تقدير الأجر ومدة المكث ومقدار الماء المستعمل، والإجارة بالطعام والكسوة أو ببعض ما يعمل فيه العامل، وبيع الوفاء، لحاجة الناس أو لاضطرارهم إلى ذلك النوع من التعامل، مع أن الاستصناع والسلَم والإيجار عقود على أمر معدوم، فكان العرف فيها مخصصاً للنص العام المانع من جوازها، ومن المقرر عند الحنفية والمالكية: أن العرف العام يترك به القياس ويخصص به الدليل الشرعي.
وكذلك بيع المعاطاة: فيه مخالفة للنص المتطلب للإيجاب والقبول الدالين على الرضا صراحة، وهو قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارةً عن تراض منكم) النساء 4/ 29، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما البيع عن تراض)). وكذلك عق الدخول إلى الحمام أو النزول في الفنادق أو الجلوس في المقاهي أو نحوها يشتمل على جهالة، ومع هذا أجيز للحاجة الماسة إليه.
وأجاز الحنابلة والمالكية خلافاً للحنفية والشافعية استئجار الأجير بطعامه وكسوته بالرغم من جهالة الأجرة، لتعارف الناس ذلك وحاجتهم المستمرة إليه، كما في حالة استخدام الخدم والرعاة والمزارعين والظئر (المرضع) بالطعام والكسوة، وروي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى رضي الله عنهم أنهم استأجروا الأجراء بطعامهم وكسوتهم، ودليل الجواز المتفق عليه بين المذاهب في الظئر قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) إلى أن قال سبحانه: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف) البقرة 2/ 233، ففي مطلع الآية أوجب الله للمرضعات النفقة والكسوة على الرضاع بدون تحديد مقدار معين، وفي نهاية الآية نفى الله سبحانه الجناح في الاسترضاع مطلقاً، وجهالة الأجرة في تلك الحالة لا تفضي إلى المنازعة، لأن العادة جرت بالمسامحة مع المرضعات والتوسعة عليهن شفقةً على الأولاد، وللضرورة إلى حفظ الولد والحاجة إلى إبقائه.
واستدل الحنابلة والمالكية على تعميم المبدأ السابق بقوله (ص): ((إن موسى أجَر نفسه ثمان سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه)). وروى أبو هريرة أنه قال: ((كنت أجيراً لابنة غزوان بطعام بطني، وعقبة رجلي، أحطِب لهم إذا نزلوا، وأحدو بهم إذا ركبوا))، وبما أن مقادير الطعام والكسوة متعارف عليها، فقام العرف مقام تعيين الأجرة، وأما ((نهي الرسول (ص) عن قفيز الطحان))، وهو أن يعطَى الطحانُ أقفزة معلومة من الحب يطحنها بقفيز دقيق منها، فهو لم يثبت صحته عندهم، ولذا فإنهم أباحوا استئجار الأجير ببعض ما يعمل فيه فيما تعارفه الناس كإعطاء بعض الحب لدارسه أو حامله أو حاصده.
وبيع الوفاء كما ذكرت سابقاً: فيه تحايل على الربا، ومشتمل على شرط نافع للمشتري لا يقتضيه العقد، وهو فسخ البيع عند رد الثمن، إلا أن الحنفية أجازوه للضرورة أو للحاجة.
ومثل ذلك تعارف الناس كثيراً من العادات التجارية والخطط السياسية والأنظمة الاقتصادية والإنمائية والاجتماعية التي تتطلبها حاجاتهم، وتستدعيها مصالحهم، فهي جائزة ما لم تصادم نصاً تشريعياً آمراً بنقيض المتعارف عليه أو ناهياً عنه أو ممنوعاً بنص خاص وارد فيه.
3 ـ يجوز شراء بعض الحاجيات الشخصية أو المنزلية كالساعة والمذياع والغسالة والثلاّجة مع ضمانة عدم العطب، أو التكفل بإصلاحها مدة معينة، لتعارف الناس واحتياجهم إلى ذلك. فهذا عرف خاص يعارضه نص حديث نبوي وهو أن النبي (ص) قد ((نهى عن بيع وشرط)). والحقيقة أن هذا العرف ليس بقاض على الحديث، بل على القياس، كما قال ابن عابدين، لأن الحديث معلل بوقوع النزاع المخرج للعقد عن المقصود به: وهو قطع المنازعة، والعرف مانع للنزاع، فكان موافقاً لمعنى الحديث، ولم يبق من الموانع إلا القياس أي القاعدة العامة، والعرف قاض عليه.
وهناك شروط أخرى هي في الأصل عند الحنفية شروط مفسدة لعقد البيع ونحوه من المعاوضات المالية، إلا أنها نظراً لتعارفها بين الناس وحاجتهم الماسة إليها، لم تعد من أسباب الفساد عامة، كأن اشترى انسان حنطة على أن يطحنها البائع دقيقاً، أو قماشاً على أن يخيطه البائع قميصاً، أو يشتري رجل حنطة على أن يتركها في دار البائع شهراً، أو يبيع شخص داراً على أن يسكنها البائع شهراً، ثم يسلّمها إليه، أو أرضاً على أن يزرعها سنة مثلاً، فهي كلها صحيحة بالرغم من وجود زيادة منفعة مشروطة لأحد المتعاقدين، مما يخل بمبدأ تعادل طرفي العقد، ويؤيده أن النبي (ص) ((اشترى من جابر بن عبدالله جملاً، واستثنى ـ جابر ـ حملانه عليه إلى أهله)).
4 ـ أجاز العلماء بالاتفاق الاستئجار على تعليم اللغة والأدب والحساب والخط والفقه والحديث ونحوها، وبناء المساجد والقناطر والثغور والرباطات، لتعارف الناس وللحاجة أو الضرورة الداعية لذلك، وإلا تعطلت المصالح العامة.
وقال الإمامان مالك والشافعي: تجوز الإجارة على تعليم القرآن، لأنه استئجار لعمل معلوم بعوض معلوم، ولأن رسول الله (ص) ((زوّج رجلاً بما معه من القرآن))، فجاز جعل القرآن عوضاً، وقال رسول الله (ص): ((إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله))، وقد ثبت ((أن أبا سعيد الخدري رقى رجلاً بفاتحة الكتاب على جُعل، فبرئ، وأخذ أصحابه الجعل، فأتوا به رسول الله (ص)، فأخبروه، وسألوه، فقال: لعمري من أُكل برقيةِ باطل (أي كلام باطل)، فقد أكلتَ برقيةِ حقّ، كلوا واضربوا لي معكم بسهم)).
ثم أفتى المتأخرون من الفقهاء الآخرين كالحنفية وبعض الحنابلة بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وقراءته، والإمامة والأذان وسائر الطاعات من صلاة وصوم وحج، قياساً على الأفعال غير الواجبة، ولأن النبي (ص) أقر حج صحابي عن غيره، ونظراً لانقطاع عطايا المعلمين وأرباب الشعائر الدينية من بيت المال، فلو اشتغل هؤلاء بالاكتساب من زراعة أو تجارة أو صناعة، لزم ضياع القرآن وإهمال تلك الشعائر.
قال بعض الحنابلة: ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرة، بل رزق للإعانة على الطاعة، فمن عمل منهم لله أُثيب.
هذا مع العلم بأن فتوى هؤلاء المتأخرين مخالفة لما هو مقرر في أصل المذهب الحنفي الذي يشترط لصحة الإجارة ألا يكون العمل المأجور له فرضاً ولا واجباً على الأجير قبل الإجارة، فهذه الطاعات عبادات له، والعبادة لا تؤخذ أجرة عليها، وقد روي أن عثمان بن أبي العاص قال: ((إن آخر ما عهد إليَّ النبي (ص) أن أتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)).
وأجاز الشافعية الإجارة لتجهيز ميت ودفنه، والتجهيز يشمل ا لغسل والتكفين، لأنه من فروض الكفايات، ولا يضر طروء تعين ذلك كالمضطر، فإنه يتعين إطعامه مع تغريمه البدل.
5 ـ أجاز الإمام أحمد بن حنبل بيع العربون، لتعارفه بين الناس وحاجتهم إليه، ويؤيده ما روي عن نافع بن عبدالحارث: ((أنه اشترى لعمر (رض) دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر، كان البيع نافذاً، وإن لم يرض فلصفون أربع مئة درهم))، وضعف أحمد حيث ((نهى النبي (ص) عن بيع العربان))، هذا إلى أنه قد أصبحت طريقة البيع بالعربون في عصرنا الحاضر أساساً للارتباط في التعامل التجاري الذي يتضمن التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار.
6 ـ يجوز عند جماعة من العلماء البيع بثمن يترك تقديره إلى العادة والعرف: وهو البيع الشائع بين الناس في شراء السلع المعروفة السعر بثمن مؤجل. فقد يحدث كثيراً أن يعتاد الشخص التعامل مع تاجر خاص على الحساب الشهري، فيأخذ منه ما يحتاجه من بضائع تعلم للناس أثمانها عرفاً، ثم لا يدفع ثمنها إلا بعد مدة، وهذا حال كثير من الموظفين الذين يتعاملون مع باعة اللحوم والبقول والخرداوات ونحوها، على أن يدفع الحساب في آخر الشهر، فهو بيع لا ينص المتعاقدان فيه على مقدار الثمن، اتكالاً على تقديره والعلم به في العادة، ومع هذا فإنه لا بأس به، لأن المعلوم من طريق العادة كالمعلوم من طريق الشرط، والشارع لم يشترط في تحصيل العلم بالثمن طريقاً معينة، فكيفما حصل، كان كافياً في صحة التعاقد.
والمساهمة بالنصيب (بيع اليانصيب) المتعارفة الآن غير جائزة شرعاً، سواء أكانت لعمل خيري أم وطني أم إنساني أم لغير ذلك، لأنها من أنواع القمار التي حرمها الإسلام تحريماً قطعياً مهما كان الباعث عليها.
7 ـ يجوز البيع بالتقسيط أو بثمن مؤجل عند الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله وجمهور العلماء، لتعارفه بين الناس واضطرارهم، أو حاجتهم إليه حسب ظروف الإنسان المادية، ولعموم الأدلة الدالة على جواز البيع مطلقاً. قال الشوكاني: وه الظاهر. وقد ألّف رسالة في ذلك سمّاها (شفاء العليل في كم زيادة الثمن لمجرد الأجل).
وخالف في هذا بعض العلماء وهم: زين العابدين علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى من الزيدية، فقالوا: يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، أي بسبب وجود الربا أو شبهة الربا فيه، واستدلوا بحديث لفظه ((مَن باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا)).
ومعنى الحديث: أن يقول البائع لآخر: ((بعتك هذا المتاع بألف نقداً، أو بألفين إلى سنة، فخذ أيهما شئت أنت، وشئت أنا))، والمسألة هذه مفروضة في أن المشتري قبل قبولاً مبهماً، لم يعين فيه على أي نحو اتجه قبوله: هل إلى البيع نقداً أم إلى البيع مؤجلاً؟ أما لو قال: قبلت بألف نقداً، أو بألفين نسيئة، صح ذلك. والحقيقة أن في هذا الحديث طعناً في إسناده، والمشهور عن أبي هريرة هو اللفظ الذي رواه غيره، وهو ((النهي عن بيعتين، في بيعة))، ولا حجة فيه على المطلوب الذي تمسك به الفريق الثاني: أي حرمة بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء.
8 ـ أجاز الإمام أحمد خلافاً للأئمة الثلاثة الآخرين البيع بما سيستقر أو ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير الثمن أو تحديده وقت العقد، لتعارف الناس وتعاملهم به في كل زمان ومكان، وقد نصّ عليه الإمام أحمد، واختاره ابن تيمية الذي قال فيه: هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوة بالناس آخذ بما يأخذ به غيري، وغاية البيع بالسعر أن يكون بيعه بثمن المثل، فيجوز، كما يجوز المعاوضة بثمن المثل في هذه الصورة وغيرها، ولا تقوم مصالح الناس إلا بهز
ولم يجز جمهور العلماء ذلك لما فيه من جهالة الثمن عند التعاقد.
وقد أقرّت المادة (64) من قانون أصول المحاكمات الحقوقية للدولة العثمانية هذا النوع من البيوع، كما أنها اعتبرت بيع المعدوم صيحاً بشرط ألا يكون وجوده مستحيلاً، وأيّد القانون المدني السوري والمصري مضمون هذه المادة، فأجاز أن تباع السلع بأثمان يحددها السوق في المستقبل، وأكثر ما يكون ذلك في تجارة الأقطان، إذ يتفق المتعاقدان على يوم معين يكون سعره قاضياً عليهما بما يظهر فيه من الثمن. وهذه الطريقة هي المسماة ببيع (الكنتراتو)، ويوم السعر الملزم فيه يسمى (يوم القطع).
والمراد بسعر السوق في القانون سعر المبيع وقت العقد، أو سعره في وقت مستقبل، وأما الذي أجازه فقهاء الحنابلة فالمراد به سعر السوق وقت البيع فقط، ولا يشمل البيع بسعر السوق في المستقبل، فإن هذه الحالة لا تجيزها قواعد الفقه الإسلامي.
9 ـ أجاز الحنابلة كل عقد أو شرط في عقد لم يخالف مقتضى العقد أو حكم الله ورسوله، مثل اشتراط المشتري صفة معينة في المبيع، أو اشتراط البائع استخدام السيارة التي باعها مثلاً مدة شهر أو أكثر، أو توصيل البائع الشيء المبيع لدار المشتري، أو تعليق التعاقد بأمر، مثل إن جاء والدي من السفر فقد بعتك المتاع الفلاني، وذلك للتعامل الجاري بين الناس على هذا النحو وحاجتهم إليه، ولقوله (ص): ((المسلمون على شروطهم)).
هذا، ومن الطبيعي أن يتبدل الحكم الشرعي بتبدل العرف، لأن القصد من الشريعة تحقيق المصالح، فإذا تبدل وجه المصلحة في عرف الناس، تبدل الحكم، لذا قال العلماء: ((لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)).