يستخدم مفهوم النخبة elite بصورة عامة للدلالة على ما هو متميز بجودته ونوعيته، غير أنه في العلوم الاجتماعية يتسع ليدل على الجماعات الاجتماعية المتميزة بخصائصها ومواقعها الإدارية والتنظيمية، وخاصة ذوي النفوذ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. ومن الملاحظ أن استخدام مفهوم النخبة بهذا المعنى لم يكن منتشراً في العلوم الاجتماعية والكتابات السياسية إلا منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وخاصة في الثلاثينيات، وقد انتشر في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، وساد استخدامه في النظريات الاجتماعية التي أولت اهتماماً كبيراً بمظاهر التفاضل الاجتماعي، وظهر ذلك بصورة خاصة في كتابات فلفريدو باريتوVilfredo Pareto الذي يعدّ من الأوائل الذين أعطوا مفهوم النخبة شطراً كبيراً من اهتماماتهم.
تعد مؤلفات «باريتو» عن «العقل والمجتمع» The Mind and Society الصادر عام 1916، وموسكا Mosca «الطبقة الحاكمة» The Ruling Class الصادر عام 1941، وروبرت ميشيل Michels، و بيرنهام Burnham، ورايت ميلز Mills من أكثر الكتب شهرة في معالجتها لموضوع النخبة.
والتعريف المتداول لمفهوم النخبة أنها جماعة من الناس أو فئة قليلة منهم تحظى بمكانة اجتماعية عالية الشأن وتؤثر في الشرائح الأخرى، وتتمتع بسمات خاصة كالقدرات الفكرية والأدبية، أو الوضع الإداري المتميز والعالي؛ مما يجعلها ذات هيبة عالية ونفوذ واسع الانتشار، وغالباً ما تتشابه في الاتجاهات والقيم ومهارات القوة والاتصالات الشخصية والأسرية.
وفي الوقت الذي يميز فيه موسكا بين من يحكمون ومن لا يحكمون، بين الأقلية التي تملك القوة والأغلبية التي تفتقر إليها، ويتناول التقسيم التاريخي المستمر بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة، يفرق باريتو بين النخبة الحاكمة - وهي بؤرة اهتمامه - وبين النخبة غير الحاكمة من جهة، وبين الأفراد من غير النخبة من جهة ثانية، وبصورة عامة يمكن النظر في تقسيم القوة بين النخبة وغير النخبة على مستوى المجتمع كله، كما هي الحال عند باريتو وموسكا، أو داخل الجماعات المنظمة على شكل الحزب السياسي كما هي الحال عند روبرت ميشيل.
لا تتوافق فكرة النخبة الحاكمة مع المفهوم الماركسي للطبقة الحاكمة أو المسيطرة، ذلك أن من السمات التي تميز مفهوم النخبة أنها تُبقي لنفسها حاجزاً يحول دون إمكانية الانضمام إليها من قبل شرائح أخرى إلا وفق معاييرها مع أنها تبقى منفتحة على الآخرين، وتجنِّد أشخاصاً جدداً من بينها بغية المحافظة على وضعيتها القوية، في حين يشير التحليل الماركسي إلى استمرار عدم الانفتاح وزيادته إلى درجة الاستقطاب بين الطبقات الحاكمة والطبقات المحكومة، كما أن نظرية النخبة لا تعطي أهمية كبيرة للقوة الاقتصادية مظهراً وحيداً وأساسياً للقوة، بل تضيف مجموعة أخرى من العوامل إلى سيادتها وتفوقها.
ويظهر التعارض بين فكرة النخبة وفكرة الديمقراطية بطريقتين أساسيتين: في الأولى يظهر إصرار نظريات النخبة على التفاوت بين الأفراد، وهو أمر يتعارض مع أهم مبدأ ينهض عليه الفكر السياسي الديمقراطي الذي يميل إلى تأكيد المساواة بين الأفراد، وفي الثانية يظهر تصور القلة الحاكمة الذي يتناقض مع النظرية الديمقراطية القائمة على حكم الأغلبية.
ومع أن هناك قدراً ملحوظاً من الاتفاق بين منظري فلسفة النخبة حول نقاط عديدة، غير أن ثمة فروق بينهم أيضاً، وخاصة فيما يتعلق بخصائص النخبة وفرصها في الحصول على القوة، ويمكن التمييز بين أربعة اتجاهات أساسية في دراسة النخبة: أولها الاتجاه التنظيمي الذي يمثله موسكا وميشيل، وثانيها الاتجاه السيكولوجي الذي ظهر في كتابات باريتو، وثالثها الاتجاه الاقتصادي ويمثله بيرنهام، ورابعها النظامي الذي يمثله رايت ميلز.
ـ الاتجاه التنظيمي: وينطلق من قضية أساسية مفادها أن النخبة تملك مقاليد القوة بفضل قدراتها التنظيمية وتقديرها الدقيق لمصادر القوة في المجتمع، ويذهب موسكا إلى أن الضبط الذي تمارسه النخبة يعتمد على كونها قليلة العدد ومتماسكة في بنيتها، وأنها تكوِّن جبهة قوية قادرة على تحدي المعارضة، ومن ذلك يبدو أن النخبة عند موسكا وميشيل تشكل جماعة صغيرة تتصف بقدرات تنظيمية لا تتوفر لدى الجماعات الكبيرة، فخطوط الاتصال داخلها بسيطة كل البساطة، كما أن فرص اتصال أعضائها بعضهم ببعض أفضل بكثير من الفرص المنتشرة بين أعضاء الجماعات الكبيرة، ويترتب على ذلك أن الصفوة بوصفها جماعة صغيرة تستطيع صياغة سياستها على نحو أسرع، كما أنها قادرة على إحداث تماسك داخلي إذا ما نشأ تهديد خارجي، وفضلاً عن ذلك فالنخبة قادرة على الاستجابة السريعة للظروف المتغيرة، وهي استجابة لا تتاح على هذا النحو للجماهير غير المنظمة.
ـ الاتجاه السيكولوجي: ويمثله باريتو وميشيل، فقد قدم باريتو تحليلاً للصفوة أكثر شمولاً ونفاذاً، فهو يوسع من نطاق النخبة حتى إنها تصل إلى مفهوم «الطبقة الحاكمة» عند ماركس، ذلك أن نظرية النخبة عند باريتو تعد جزءاً رئيساً من علم اجتماعي جديد حاول إقامته مستنداً إلى أبعاد سيكولوجية خالصة، فأوضح أن القائد أو الزعيم الذي يحصل على السلطة وتعوّد ممارستها يجد بعد ذلك صعوبة في النزول عنها، فيزداد إيمانه بنفسه، ويبالغ في عظمته، ثم يلجأ في النهاية إلى نسب التنظيم إليه، وربطه به، ويذهب بعد ذلك إلى القول إن الأقليات الحاكمة تسعى باستمرار إلى إيهام الجماهير بضرورة تحقيق الوحدة الداخلية والاستقرار حتى يمكن مواجهة الأخطار التي تهدد المجتمع، وطبقاً لهذه الأيديولوجية تنظر الأقلية الحاكمة إلى أي معارضة بوصفها عنصراً تخريبياً يفيد منه الأعداء، وقد تبني هذه الأقلية أسطورة الديمقراطية التي تجعل من القائد المنتخب انتخاباً ديمقراطياً تعبيراً دائماً عن إرادتها الجمعية.
وقد ميّز باريتو بين شكلين للنخبة، فثمة نخبة حاكمة تضم الذين يؤدون دوراً بارزاً ومباشراً في صوغ سياسة المجتمع، ونخبة غير حاكمة تتألف من الذين لديهم قدرات ومواهب خاصة، ولكنهم ليسوا في مراكز القوة، ويقابل باريتو بعد ذلك بين النخبة بنوعيها والجماهير من غير النخبة، والملاحظ أن تحليل باريتو يوازي عموماً تحليل ماركس، فإذا كان الأخير كان قد حلل التاريخ في ضوء صراع الطبقات فإن الأول قد حلله في ضوء الصراع بين النخبة والجماهير فضلاً عن البناء السيكولوجي للنخبة ذاتها، والواقع أن تصور باريتو يعكس نظرة دائرية لمجرى التغيّر، فالتاريخ لديه هو مقبرة الأرستقراطيات ذلك أن النخبة ليس لديها ميل طبيعي إلى التناوب في شغل مراكز القوة السياسية.
فالنخبة لديه ليست نتاجاً لقوة اقتصادية كما هي الحال عند ماركس، ولا تستند في قوتها إلى قدرات تنظيمية، كما هي الحال عند موسكا وميشيل، ولكنها نتاج لما أسماه بالخصائص الإنسانية الثابتة في التاريخ، ولكي يوضح باريتو وجهة نظره يستعين بمفهومين هما الاشتقاق والرواسب، أما الأول فيقربه من ماركس قليلاً، وأما الثاني فيعكس مباشرة طبيعة الغرائز الإنسانية.
ـ الاتجاه الاقتصادي: ويمثله جيمس برنهام ورايت ميلز؛ إذ يتخذ أصحاب هذا الاتجاه موقفاً من النخبة يختلف عن الموقف الذي اتخذه موسكا وميشيل وباريتو، فإذا كان هؤلاء قد سعوا إلى هدم النظرية الماركسية في الطبقة الحاكمة، وإذا كان الماركسيون قد رفضوا نظرية النخبة بوصفها تعبيراً عن أيديولوجية برجوازية فإن برنهام حاول المزواجة بين النظريتين، فبسط آراءه في مؤلف شهير له نشر عام 1941 بعنوان «الثورة الإدارية»، وهو مؤلف نهض على أساس فكرة أن النظام الرأسمالي في تدهور مستمر، وأنه سيتحول تدريجياً إلى مجتمع تسيطر عليه نخبة إدارية تتولى شؤونه الاقتصادية والسياسية، وأهم هذه الفروض أن السياسة ما هي إلا كفاح ونضال وصراع مستمر بين الجماعات من أجل الحصول على القوة، وأن الجماعات الصغيرة في كل المجتمعات هي تلك التي تتولى حتماً اتخاذ القرارات الأساسية، وفضلاً عن ذلك يستعين برنهام بكتابات علماء النخبة ذاتها، ويبدو تأثره بالنظرية الماركسية أوضح ما يكون في فهمه وتفسيره لمجرى التغيّر الاجتماعي، فتحكّم النخبة في وسائل الإنتاج هو الذي يمنحها الوضع المسيطر في أي مجتمع، والطبقة الحاكمة هي الطبقة التي تحصل على أعلى الدخول في المجتمع.
ـ الاتجاه المؤسسي: ويمثله رايت ميلز الذي يتفق مع بيرنهام على أن مكان الصفوة وبناءها يتحدد في ضوء البناء الاجتماعي الاقتصادي لمجتمع معين، وإذا كان بيرنهام قد وجد أن القوة في المجتمع تؤدي إلى ظهور تحكّم في وسائل الإنتاج فإن ميلز وجد أن هذه القوى تؤدي إلى ظهور منظمات كبيرة الحجم كالمؤسسات العسكرية والشركات الكبرى والهيئات السياسية، والنخبة عنده هي نتاج للطابع المؤسسي الذي يسيطر سيطرة كاملة على المجتمع الحديث، ومن ثم فإن القوة تميل إلى اتخاذ طابع مؤسسي عام، ويؤدي ذلك الموقف إلى ظهور منظمات تحتل أهمية محورية في المجتمع، وهذه المؤسسات تكوّن في مجموعها الأوضاع القيادية في البناء الاجتماعي.
ويمثل قادة المؤسسات المختلفة قوة على المستوى القومي، بحيث تنشأ بينهم صلات وروابط وثيقة، وهذه الروابط تكون في أوج قوتها حينما يتبادل الأفراد فيما بينهم الوظائف العليا الممثلة لقطاعات المجتمع المختلفة.
جلال السناد