إذا كان مفهوم السجن قد اقترن منذ القدم، بالقهر والإيلام والإيذاء والتعذيب وسلب الحرية، فإن هذا المنظور التقليدي قد تغير وتغيرت معه السياسة الجنائية ومفهوم العقاب، فشرعت عدة قوانين تخص تنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، تحمل في طيها عزيمة قوية وشفافة في مجال أنسنة السجون، وإضفاء روح العدل وإعادة تربية الجانحين سواء من شروط وظروف الاعتقال والإقامة أو فيما يخص المعاملة وضروريات الحياة من صحة ونظافة ومأكل( ).
فبعد أن كانت السجون منغلقة على نفسها، وكانت ظروف وشروط التواصل مع العالم الخارجي تكاد تكون منعدمة، أصبحت المؤسسة السجنية اليوم عبارة عن مؤسسة للإصلاح والتربية وإعادة الإدماج، بناء على معايير بيداغوجية وأساليب تقنية وبرامج مركزة، ذات أهداف ومرامي محددة، تراعى فيها الجوانب الاجتماعية والإنسانية، وتحفظ فيها للمعتقل كرامته وإنسانيته، مما يدل على الإرادة القوية والعزيمة الأكيدة في الأخذ بمشعل الإصلاح دون رجعة فيه.
إن دور المؤسسات العقابية لم يعد يقتصر على عزل الجاني عن المجتمع، بل أصبح دورها يتمثل في إصلاحه، وتأهيله لحياة اجتماعية شريفة( )، لذلك فإن سياسة هذه المؤسسات في المعاملة العقابية ترمي إلى منع العودة إلى الإجرام عن طريق اتباع أساليب متخصصة في العلاج، كالتصنيف، وإيجاد رعاية إنسانية متكاملة، ومؤسسات مفتوحة وشبه مفتوحة، وتلقين النزيل مبادئ العلم والأخلاق والدين، وتعليمه مهنة يعتاش منها في المستقبل( ).
وقد ركزت الدراسات الحديثة على مبدأ الرعاية اللاحقة بعد الإفراج، بحيث لا يترك المفرج عنه من المؤسسة العقابية فريسة للعوامل التي أدت به إلى السلوك المنحرف، بل يجب العمل على إزالتها من طريقه، ومد يد العون له لإيجاد عمل أو مسكن، وحلول للمشاكل التي تقف حائلا دون دمجه في المجتمع نتيجة للفترة التي يكون قد أمضاها داخل السجن، ويتعين أن تبدأ هذه المرحلة قبل الإفراج وتستمر بعده وفق احتياجات ومتطلبات كل مفرج عنه على حدة.
إن الحديث عن المؤسسة السجينة كإطار للإصلاح والتأهيل وتواصله مع المحيط الخارجي، يصب في مقاربة تتمحور حول ركائز ثلاثة :
أولا : التواصل من أجل خلق جو ملائم للإصلاح والتأهيل وإعادة الإدماج.
ثانيا : التواصل من أجل إعداد النزيل نفسيا قبل الإفراج عنه.
ثالثا : تفعيل الدور التربوي والاجتماعي للمؤسسة السجنية وعلاقته بالمحيط الخارجي، وفعاليات المجتمع المدني.
أولا : التواصل من أجل خلق جو ملائم للإصلاح والتأهيل وإعادة الإدماج
لقد انخرطت إدارة السجون وإعادة الإدماج في برنامج جدي وفق مخطط ممنهج ومحكم، حملت فيه مشعل الإصلاح، واهتمت فيه بالدرجة الأولى بالجانب الاجتماعي للنزلاء، على مستوى مختلف الأصعدة، في إطار تقريب الفوارق بين النزيل والموظف، وتجاوز علاقة السجين بالسجان بخلق روح التواصل والتعاون والانسجام في إطار تركيز المشرع على بلورة أوراش وأنشطة مختلفة، من رياضة، موسيقى، مسرح وأوراش للرسم، وخزانة للكتب ناهيك عن رصد الإبداعات الأدبية لما لذلك من تأثير على الحس النفسي وصقل المواهب، وتحدي إشكالية الانطواء والدونية في صفوف النزلاء، وبالتالي تهييء جو ملائم لشغل الفراغ الذي قد يترك ليذهب سدى، دون تنظيم ودون أن يستثمر فيما يعود على النزيل بالنفع والفائدة، وحتى لا يكون أداة انحراف في ممارسة نشاطات ضارة كالعنف ضد باقي النزلاء ومطالعة الكتب الفاسدة والمضرة، وتعاطي المخدرات، ومطالعة الكتب المحتوية على تحطيم القيم المعنوية أو المتضمنة قصصا إجرامية أو صورا جنسية ترمي إلى الإغراء وإثارة الشهوات.
وفي هذا الإطار ركز المشرع المغربي في المرسوم التطبيقي للقانون المنظم للسجون على الجانب الاجتماعي وذلك في عدة مواد قانونية، تسهيلا للنزلاء وتمكينهم من الحصول على جميع الوسائل لإبراز مداركهم، وكفاءتهم، بالمشاركة في المناقشات والمحاضرات والندوات، وحضور الدروس تحت إشراف مربين. وقد أشار المشرع في المادة 112 من المرسوم على إمكانية استعمال كل الطرق البيداغوجية والوسائل السمعية البصرية، كما يمكن إشراك كل القطاعات الحكومية ذات الصلة بالعمل التربوي، كل ذلك بهدف التواصل من أجل خلق جو ملائم ومناسب للإصلاح، والتأهيل لنزيل المؤسسة الجسنية.
ثانيا : التواصل من أجل إعداد النزيل نفسيا قبل الإفراج عنه
إن التركيز على الجانب النفسي يعتبر من الأهمية بمكان لدى النزيل قبل الإفراج عنه تهييئا لإدماجه، من خلال توعيته وتحسيسه ومن خلال تكوينه وتأطيره وما وفر له خلال اعتقاله من أرضية تمكنه من شق طريقه في الحياة باتزان وثبات لاسترجع مكانته ودوره داخل النسيج الاجتماعي، حتى يصبح صالحا لنفسه ولغيره، وقد تحدث المشرع المغربي عن إشكالية الإعداد النفسي في المادة 120 من المرسوم بصورة صريحة حيث جاء فيها : “… غير أنه يمكن أن يقوم بمهمة التعليم المعتقلون المتطوعون الذين تلقوا تكوينا بيداغوجيا مناسبا …”.
فإمكانية إشراك النزيل في القيام بدور يمكن أن يسند إلى متخصص في مجال التعليم، هي محاولة لإعداد النزيل نفسيا لتحسيسه بأهميته وقيمة دوره، مما ينمي لديه الشعور والإحساس بالأهمية، وارتفاع الروح المعنوية لديه.
وفي هذا السياق أشار المشرع في المادة 119 من المرسوم إلى إمكانية عودة النزيل بعد إذن الإدارة لاجتياز الامتحانات في مجال التكوين المهني داخل المؤسسة التي كان معتقلا بها، بعد أن غادرها قبل انتهاء السنة الدراسية، مما يبين بجلاء ووضوح انفتاح المؤسسة الإصلاحية السجنية لتصبح مؤسسة تربوية بالمفهوم العام، فهي لم تعد المؤسسة العقابية كما كان الأمر عليه من ذي قبل، وهي سابقة تحسب للمشرع المغربي يريد بها تغيير عتاقة المنظور التقليدي للمجتمع للمؤسسة السجنية على أنها لم تعد العقابية حسب ما كان ينظر به إليها، وإنما اصبحت مؤسسة تربوية اجتماعية ذات أهداف ومرامي إصلاحية.
ثالثا : تفعيل الدور التربوي والاجتماعي للمؤسسة السجنية وعلاقته بالمحيط الخارجي، وفعاليات المجتمع المدني
إن إشكالية تفعيل الدور التربوي والاجتماعي للمؤسسة السجنية، يقتضي تدعيم جسور التواصل مع فعاليات المجتمع المدني، من هيئات ومنظمات حقوقية وتربوية ذات الاهتمام بالشأن السجني، بهدف النهوض بوتيرة الإصلاح وفق برامج ومخططات مشتركة، ترمي إلى الحد من الانحراف، توفير سبل ناجعة ميدانية، كتوفير الشغل مثلا للحاصلين على شواهد التكوين المهني من المفرج عنهم، حسب تخصصاتهم، وذلك بالتدخل لدى أرباب المقاولات وإقناعهم بتشغيل خريجي مراكز الإصلاح والتهذيب والمؤسسات السجنية، على أساس أنهم أصبحوا أشخاصا أسوياء، مما يؤدي إلى جبر النفس لدى النزيل من خلال إحساسه بالمساعدة على إمكانية الحصول على مورد للعيش، ودخل محترم يمكنه من بدء حياته من جديد مما نعتبره تدبيرا وقائيا جديا للحد من الانحراف( ).
وهذا الدعم لن يتأتى إلا بخلق وحدة للتتبع والرعاية اللاحقة التي نرى أنها تكتسي أهمية قصوى في تتبع أحوال المكونين، بعد الإفراج عنهم لتفقد أحوالهم وإمكانية إدماجهم، والإشكاليات التي تعترض سبيلهم، ولو بصفة نسبية تكون هذه الوحدة مشكلة من أخصائيين اجتماعيين، وأطر مكونة في مجال علوم التربية، لتوفرها على الآليات والأسس العلمية المتخصصة، وتشبعها بمبادئ الإصلاح وحقوق الإنسان، حتى تضطلع المؤسسة السجنية باستكمال دورها الإصلاحي الذي رفعت مشعله كفاعل أصلي في المجال التربوي ضمن باقي المؤسسات الاجتماعية الأخرى، مع التركيز على تفريغ العقلية المجتمعية، من المنظور التقليدي للدور العقابي للمؤسسة السجنية، وإقناع المجتمع بالدور التنموي للمؤسسة السجينة كفضاء للتربية، ومركز لإعادة الإدماج، وذلك من خلال خلق “أبواب مفتوحة”، وأيام دراسية أو ثقافية ومعارض مباشرة للزوار، تعرض أحدث منتوجات النزلاء في مختلف المجالات، وتنظيم ندوات ولقاءات تربوية مع التركيز على أن العقوبة الزجرية لا تشكل في حد ذاتها سوى تدبير للحرمان من الحرية وليس الهدف منها هو الإيلام والحط من كرامة وإنسانية النزيل، بقدر ما تهدف إلى إعادة تربيته وتكوينه وتلقينه للمبادئ العامة للتربية مع إعداده إلى فترة ما بعد الإفراج عنه بتمكينه من تكوين مختص، لاستعادة مكانته في المجتمع من جديد.
وفي هذا الإطار يجب الإلحاح على الاتصال مع الجهات الحكومية المكلفة بالشؤون الدينية لإيفاد موعظين دنيين متمرسين لغرض الإسهام في إلقاء الدروس الدينية والوعظ والإرشاد، وكذا الاتصال بالمصالح التابعة إلى التكوين المهني قصد التكثيف من إنشاء ملحقات لمراكز التكوين المهني داخل المؤسسات السجنية مع تجهيزها بأحدث المعدات والآليات المهنية، وكذا إعداد دورات تكوينية وإعادة استكمال الخبرة والتكوين للأطر المشرفة على التكوين المهني لمواكبة المستجدات في مجال إعداد البرامج والوسائل المستعملة على المستوى التكنولوجي والبيداغوجي( ).
وفي المجال الثقافي تكثيف الاتصال مع دور الجمعيات والمنتديات الثقافية للإسهام في عروض مسرحية ذات الطابع الاجتماعي وإقامة الندوات للتوعية والتحسيس والمعارض المشتركة لدعم الإبداعات التي تجيد بها شرائح النزلاء، لخلق روح التضامن والمساهمة في الرفع من معنوية ونفسية النزلاء، من أجل إعادة إدماجهم، ومن ثمة، نعتقد أن المؤسسة السجنية وإن كانت مركزا لتنفيذ العقوبة، فلا يمكن أن تحيد عن دورها الأساسي كفضاء للتربية ومجالا للإصلاح، مما يستدعي تضافر الجهود المبذولة مع مختلف فعاليات المجتمع المدني ذات الاهتمام بالمجال التربوي، والشأن السجني، مما يتعين معه الاهتمام به كباقي المجالات التربوية الأخرى، حتى نتمكن من رصد أسباب الانحراف ونحدد العلاجات الضرورية لها كتدبير وقائي، وذلك وفق برنامج مخطط مشترك مبني على أسس علمية ومبادئ حقوق الإنسان لما فيه خير ونفع للشأن العام[justify]