الاستاذ الطيب البواب
من هيئة الدار البيضاء
لماذا اللجوء الى اثبات التصرفات العقارية؟
انه خلال العصور الاولى لم يعرف الناس التزاحم والتنافس على امتلاك الارض واقتنائها. فارض الله واسعة جدا، وكلها في اصلها موات لا ملك لاحد عليها، ولكل امرئ ان يضع يده على ما قدر عليه منها لتصبح ملكا خاصا به وليستعمله ويستغله كما شاء.
وكانت الارض تعتبر العامل الانتاجي الطبيعي الثاني الذي يكون مع العامل الاول، عمل الانسان، العنصرين الوحيدين للانتاج، ورغم عالم الاقتصاد مع تعاقب العصور، عرف تطورا كبيرا ادى الى خلق رؤوس اموال جديدة ، فان عنصر الارض بقي حتى الان يلعب دورا مهما في الانتاج بجانب العمل والعوامل الانتاجية الاخرى.
وبعدان كانت الارض متوفرة بكثرة وفوق حاجيات سكانها، فان النمو الديموغرافي الذي اشتدت كثافته في العالم كله الى حد الانفجار، اخذ يؤدي الى تقليص مساحات الارض، وكان من نتائج ذلك ان اشتد التزاحم والتنافس على اقتنائها مما ادى الى ارتفاع قيمتها ارتفاعا شديدا في اصقاع العالم كله.
ومن طبيعة التنافس في الاشياء والتهالك عليها ان تتعارض المصالح والمنافع،فتنشا المنازعات والخصومات مما يؤدي الىالاضطراب وعدم الاستقرار في المراكز الحقوقية ويكثر عدوان الطغاة المعتدين على حقوق اخوانهم المستضعفين.
-------------------------
*) تقدم بهذه الورقة الاستاذ الطيب البواب نيابة عن السيد النقيب بمناسبة اليومين الدراسيين المنظمين من طرف الهيئة الوطنية لعدول المغرب ( 13-14 ابريل 2001)
------------------------
ولفرض نظام في مجتمع يسوده الاستقرار والاطمئنان والامن والسلام، اقيمت المؤسسات القضائية لنصرة المظلومين والضرب على ايدي الظالمين وكان منطقيا ولزاما على من يستنجد العدالة لحماية حقوقه ان يثبت لديها صحة دعواه. وقد جاء في الحديث الشريف الذي اخرجه الامام مسلم في صحيحه في كتاب الاقضية براوية ابن عباس : "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال واموالهم…" قال فقهاؤنا الاقدمون اجمعت الامة على انه لو ادعى اتقى الناس على افجر الناس لما اعطى بدعواه حتى يقيم الدليل عليها. وعلى هذا الاصل الاصيل في تحقيق العدالة بين الناس قام المبدء المشهور، سواء في الميدان الجنائي " الاصل في الناس البراءة حتى تثبت ادانتهم "، وفي الميدان المدني " الاصل في الذمة براءتها حتى تثبت عمارتها ".
فكل حق مدعى به لا تدعمه وسائل اثباته عند قيام نزاع بشانه يعتبر عدما محضا، والادعاء به عبثا ولددا. وجميع التصرفات العقارية التي تتم بين الاحياء مجانية كانت او بعوض، لا يعتبر لها وجود عند نشوء منازعة ما بشانها الا بقيام الدليل عليها - فمن كان له حق عيني معلوم في عقار وزعم غيره انتقال ملكيته اليه فلا عبرة بزعمه اذا لم يثبت بوجه صحيح الوسيلة التي انتقلت اليه بها ملكية ذلك الحق، ولا حاجة الى مطالبة المدعى عليه باثبات استمرار ملكيته عملا بمبدا الاستصحاب الذي هو اصل من اصول الفقه والذي يوجب بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره.
فكيف يكون الاثبات في مجال التصرفات العقارية؟
قبل تناول صميم الموضوع ينبغي تقديم بعض التوضيحات الفقهية المتعلقة بالمصطلحات الواردة في هذا العنوان حتى تكون الاحالة على معلوم.
فالاثبات يراد به التدليل على وجود الحق المدعى به. وينصب الاثبات لا على الحق ذاته، ولكن على الواقعة المنشئة له والتي تعتبر مصدرا لوجوده. وسواء كانت هذه الواقعة تصرفا قانونيا (شراء هبة…) او واقعة قانونية (ارث وصية…) .
ويراد بالتصرفات -أي القانونية- كل تعبير عن الارادة ينتج عنه اثر قانوني، سواء كان صادرا من جانبين اثنين، وهو ما يسمى بالعقد، (بيع-هبة- رهن….) او كان صادرا من جانب واحد وهو المسمى بالارادة المنفردة (الوعد بجائزة الى الجمهور الوصية- الوقف...).
اما مصطلح العقار- والمراد هنا العقار بطبيعته - فيطلق على كل مالا يمكن نقله من مكان الى اخر ويشمل الاراضي والبنايات ما دامت متصلة بالارض والثمار التي بها، وفي الفقه الاسلامي يطلق العقار على الاراضي البيضاء والفدادين والجنات والكروم وجميع الاغراس المتصلة بالارض، اما البنايات فيطلق عليها "الرباع" (بكسر الراء، جمع ربع بفتحها) وتجمعها معا، أي الارض وما اتصل بها من بناء وغرس مصطلح "الاصول" ( جمع اصل ) .
والعقارات كلها تتعلق بها حقوق عينية عقارية. وهي على نوعين :
اصلية، وهي القائمة بذاتها من دون حاجة الى غيرها، كحق الملكية وحق الانتفاع وحق السطحية.
وتبعية، وهي كما يدل عليه اسمها، غير مستقلة بذاتها ولا قيام لها الا بالتبع لغيرها، كالرهن المستند على الدين الذي بذمة الراهن.
وقد عدد المشرع المغربي في ظهير 19 رجب عام 1333 (02/06/1915) المحدد للتشريع المطبق على العقارات الحفظة الحقوق العينية الجارية على العقارات المحفظة وحصرها في عشرة، في الفصل الثامن منه. وهي الملكية -الانتفاع- الاحباس- حقا الاستعمال والسكنى، الكراء الطويل الامد، حق السطحية -الرهن الحيازي- حقوق الارتفاقات- الامتيازات والرهون الرسمية- والحقوق العرفية الاسلامية كالجزاء والاستيجار والجلسة والزينة والهواء- وكلها حقوق عينية اصلية ما عدا ثلاثة منها تبعية وهي الرهن الحيازي والرهن الرسمي والامتيازات - وجميع هذه الحقوق العينية العقارية قابلة للتسجيل بالصكوك العقارية باستثناء حقوق الامتيازات فانها معفاة من تسجيلها به.
وسائل الاثبات في مجال التصرفات القانونية:
ان الاصل هو قبول كل وسائل الاثبات لاية واقعة مالم يقض القانون بغير ذلك.
وقد نص الفصل 404 من ق.ز.ع على ان وسائل الاثبات التي يقررها القانون هي:
1) اقرار الخصم.
2) الحجة الكتابية.
3) شهادة الشهود.
4) القرينة.
5) اليمين والنكول عنها.
ونص الفصل 401 منه على انه لا يلزم، لاثبات الالتزامات، أي شكل خاص، الا في الاحوال التي يقرر القانون فيها شكلا معينا. واذا قرر شكلا معينا لم يسغ اجراء اثبات الالتزام اوالتصرف بشكل اخر يخالفه الا في الاحوال التي يستثنيها القانون. وترك المشروع في اخر الفصل المذكور الحرية المطلقة للمتعاقدين، اذا لم يكن العقد خاضعا لشكل خاص، في ان يتفقا صراحة على انهما لا يعتبرانه تاما الا اذا وقع في شكل معين، فيكون العمل على ما اتفقا عليه .
وهذه المقتضيات تتفق مع الاحكام الواردة في الفقه الاسلامي .
ويستنتج مما سبق ان وسائل الاثبات لا تعتبر من النظام العام ما دام المتعاقدون يتمتعون بكامل الحرية في الاتفاق على شكل معين للعقد الذي يريدون ابرامه.
وبالنسبة لوسائل الاثبات في مجال التصرفات العقارية فانها تتفق احيانا وتختلف اخرى حسب كون العقار المراد اثبات التصرف في الحق المتعلق به محفظا او غير محفظ.
اولا - بالنسبة للعقار غير المحفظ:
من المعلوم ان العقارات غيرالمحفظة تجري عليها احكام الفقه الاسلامي، وبالاخص المذهب المالكي الجاري به العمل بالمغرب، بل انها تجري حتى على العقارات المحفظة ما لم تتعارض مع احكام ظهير 12/08/1913 الخاص بالتحفيظ العقاري واحكام ظهير 02/06/1915 المتضمن للتشريع المطبق على العقارات المحفظة، وغيرها من المقتضيات المتعلقة بالعقارات المحفظة - (الفصل 106 من ظهير التحفيظ العقاري) .
وحسب الفقه الاسلامي فان التصرفات العقارية يمكن اثباتها:
1) بالكتابة التي تحرر بها الرسوم العدلية، أي باشهاد اصلي من المتعاقدين على عدلين اثنين، ويقود الموثقين، والعقود العرفية المشهود بصحة امضاءاتها من طرف السلطات المسؤولة عن ذلك والاوراق التي تتضمن اقرارا بحق.
2) وبشهادة الشهود-أي الشهادات الاسترعائية - واقل عددهم اثنا عشر، وهو النصاب المحدد في شهادة غير العدول.
3) وبالاقرار القضائي
4) وباليمين المتممة للنصاب او يمين النكول.
ونقتصر حديثنا على الاثبات بالكتابة والشهود نظرا لاهميتها القصوى، واحتراما للوقت المحدد للمتدخلين.
- الاثبات بواسطة الكتابة :
ان الاثبات بالكتابة، سواء كانت في شكل اشهاد عدلي، او في شكل محرر موثق، او في شكل عقد عرفي، او في شكل اقرار يعد في اعلى مراتب الاثبات .
يقول الاستاذ السنهوري في كتابه الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الثاني، الصفحة 103، الفقرة65 :
" ان طرق الاثبات تنقسم الى طرق ذات قوة مطلقة وطرق ذات قوة محدودة" وطرق معفية من الاثبات".
" اما الطرق ذات القوة المطلقة في الاثبات فهي الطرق التي تصلح لاثبات جميع "الوقائع سواء كانت وقائع مادية او تصرفات قانونية، وايا كانت قيمة الحق المراد اثباته. ولا يوجد "من الطرق التي تعالجها ما هو ذو قوة مطلقة في الاثبات على هذا النحو الا الكتابة، فهي تصلح "لاثبات جميع الوقائع المادية وجميع التصرفات القانونية مهما بلغت قيمة الحق.
" والطرق ذات القوة المحدودة في الاثبات هي الطرق التي تصلح لاثبات بعض الوقائع "القانونية دون بعض. فهي اذن محدودة القوة. وهذه هي البينة والقرائن القضائية، اذ هي "لا تصلح لاثبات التصرفات القانونية اذا زادت قيمتها على عشر جنيهات الا في حالات استثنائية" معينة. وكذلك اليمين المتممة طريق للاثبات ذات قوة محدودة. فهي لا تصلح الا لاتمام "دليل ناقص.
"والطرق المعفية من الاثبات هي الاقرار- أي اقرار الخصم- واليمين الحاسمة"والقرائن القانونية. ولما كانت هذه الطرق تعفي من الاثبات فهي تصلح للاعفاء من اثبات اية "واقعة مادية او أي تصرف قانوني مهما بلغت قيمته، وهي من هذه الناحية ذات قوة مطلقة".
واعتبارا للمزية الكبرى التي تحظى بها الكتابة جاء في كتاب الله المجيد الحض على توثيق الحقوق بها واشهاد العدول عليها، وذلك في الاية الكريمة 281 من سورة البقرة التي تضمنت الامر الصريح بتوثيق الديون والبيوعات يقول الله تعالى :
( يا ايها الذين امنوا اذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل ، ولا ياب كاتب ان يكتب، كما علمه الله فليكتب، وليملل الذي عليه الحق، وليتق الله ربه، ولا يبخس منه شيئا. فان كان الذي عليه الحق سفيها او ضعيفا او لا يستطيع ان يمل هو فليملل وليه بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فان لم يكونا رجلين فرجل وامراتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى. ولا ياب الشهداء اذا ما دعوا، ولا تسئموا ان تكتبوهم صغيرا او كبيرا الى اجله، ذلكم اقسط عند الله، واقوم للشهادة، وادنى ان لا ترتابوا ، الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ان لا تكتبوها. واشهدوا اذا تبايعتم، ولا يضار كاتب ولا شهيد، وان تفعلوا فانه فسوق بكم، واتقوا الله، ويعلمكم الله ، والله بكل شيء عليهم).
وجاء في الاية الثانية من سورة الطلاق ( واشهدوا ذوي عدل منكم ).
وقد قام الخلاف بين الفقهاء في الامر الوارد في قوله تعالى (فاكتبوه) وقوله (واشهدوا اذا تبايعتم) في الاية281 من سورة البقرة السابقة الذكر فكثير من الفقهاء قالوا بالوجوب اخذا بصيغة الامر الدال عليه، وهو الاصل فيه. غير ان الجمهور، ومنهم المالكية، ذهبوا الى القول بانه للندب والارشاد فقط، اذ في ايجاب الكتابة والاشهاد مشقة عظيمة على المتعاقدين ، لان المعاملات كثيرة جدا، وفي كل يوم، فايجاب الكتابة عليهم فيما يتعاملون فيه والاشهاد به على ذوي العدل، فيه حرج شديد لا يطاق، ومن شانه ان يعرقل نشاط الناس في معاملتهم، ويعطل اعمال تجارتهم. والشريعة الاسلامية مبنية على التيسير، ولا على التشديد والتعسير.
والعمل الجاري في المغرب المتمذهب بالمذهب المالكي، ان الاثبات بالكتابة للتصرفات في العقار غير المحفظ غير واجب. فكما يكون التدليل على وجودها بالكتابة يصح ان يكون ايضا بشهادة الشهود، وهو ما يسمى بالبينة الشرعية.
من هيئة الدار البيضاء
لماذا اللجوء الى اثبات التصرفات العقارية؟
انه خلال العصور الاولى لم يعرف الناس التزاحم والتنافس على امتلاك الارض واقتنائها. فارض الله واسعة جدا، وكلها في اصلها موات لا ملك لاحد عليها، ولكل امرئ ان يضع يده على ما قدر عليه منها لتصبح ملكا خاصا به وليستعمله ويستغله كما شاء.
وكانت الارض تعتبر العامل الانتاجي الطبيعي الثاني الذي يكون مع العامل الاول، عمل الانسان، العنصرين الوحيدين للانتاج، ورغم عالم الاقتصاد مع تعاقب العصور، عرف تطورا كبيرا ادى الى خلق رؤوس اموال جديدة ، فان عنصر الارض بقي حتى الان يلعب دورا مهما في الانتاج بجانب العمل والعوامل الانتاجية الاخرى.
وبعدان كانت الارض متوفرة بكثرة وفوق حاجيات سكانها، فان النمو الديموغرافي الذي اشتدت كثافته في العالم كله الى حد الانفجار، اخذ يؤدي الى تقليص مساحات الارض، وكان من نتائج ذلك ان اشتد التزاحم والتنافس على اقتنائها مما ادى الى ارتفاع قيمتها ارتفاعا شديدا في اصقاع العالم كله.
ومن طبيعة التنافس في الاشياء والتهالك عليها ان تتعارض المصالح والمنافع،فتنشا المنازعات والخصومات مما يؤدي الىالاضطراب وعدم الاستقرار في المراكز الحقوقية ويكثر عدوان الطغاة المعتدين على حقوق اخوانهم المستضعفين.
-------------------------
*) تقدم بهذه الورقة الاستاذ الطيب البواب نيابة عن السيد النقيب بمناسبة اليومين الدراسيين المنظمين من طرف الهيئة الوطنية لعدول المغرب ( 13-14 ابريل 2001)
------------------------
ولفرض نظام في مجتمع يسوده الاستقرار والاطمئنان والامن والسلام، اقيمت المؤسسات القضائية لنصرة المظلومين والضرب على ايدي الظالمين وكان منطقيا ولزاما على من يستنجد العدالة لحماية حقوقه ان يثبت لديها صحة دعواه. وقد جاء في الحديث الشريف الذي اخرجه الامام مسلم في صحيحه في كتاب الاقضية براوية ابن عباس : "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال واموالهم…" قال فقهاؤنا الاقدمون اجمعت الامة على انه لو ادعى اتقى الناس على افجر الناس لما اعطى بدعواه حتى يقيم الدليل عليها. وعلى هذا الاصل الاصيل في تحقيق العدالة بين الناس قام المبدء المشهور، سواء في الميدان الجنائي " الاصل في الناس البراءة حتى تثبت ادانتهم "، وفي الميدان المدني " الاصل في الذمة براءتها حتى تثبت عمارتها ".
فكل حق مدعى به لا تدعمه وسائل اثباته عند قيام نزاع بشانه يعتبر عدما محضا، والادعاء به عبثا ولددا. وجميع التصرفات العقارية التي تتم بين الاحياء مجانية كانت او بعوض، لا يعتبر لها وجود عند نشوء منازعة ما بشانها الا بقيام الدليل عليها - فمن كان له حق عيني معلوم في عقار وزعم غيره انتقال ملكيته اليه فلا عبرة بزعمه اذا لم يثبت بوجه صحيح الوسيلة التي انتقلت اليه بها ملكية ذلك الحق، ولا حاجة الى مطالبة المدعى عليه باثبات استمرار ملكيته عملا بمبدا الاستصحاب الذي هو اصل من اصول الفقه والذي يوجب بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره.
فكيف يكون الاثبات في مجال التصرفات العقارية؟
قبل تناول صميم الموضوع ينبغي تقديم بعض التوضيحات الفقهية المتعلقة بالمصطلحات الواردة في هذا العنوان حتى تكون الاحالة على معلوم.
فالاثبات يراد به التدليل على وجود الحق المدعى به. وينصب الاثبات لا على الحق ذاته، ولكن على الواقعة المنشئة له والتي تعتبر مصدرا لوجوده. وسواء كانت هذه الواقعة تصرفا قانونيا (شراء هبة…) او واقعة قانونية (ارث وصية…) .
ويراد بالتصرفات -أي القانونية- كل تعبير عن الارادة ينتج عنه اثر قانوني، سواء كان صادرا من جانبين اثنين، وهو ما يسمى بالعقد، (بيع-هبة- رهن….) او كان صادرا من جانب واحد وهو المسمى بالارادة المنفردة (الوعد بجائزة الى الجمهور الوصية- الوقف...).
اما مصطلح العقار- والمراد هنا العقار بطبيعته - فيطلق على كل مالا يمكن نقله من مكان الى اخر ويشمل الاراضي والبنايات ما دامت متصلة بالارض والثمار التي بها، وفي الفقه الاسلامي يطلق العقار على الاراضي البيضاء والفدادين والجنات والكروم وجميع الاغراس المتصلة بالارض، اما البنايات فيطلق عليها "الرباع" (بكسر الراء، جمع ربع بفتحها) وتجمعها معا، أي الارض وما اتصل بها من بناء وغرس مصطلح "الاصول" ( جمع اصل ) .
والعقارات كلها تتعلق بها حقوق عينية عقارية. وهي على نوعين :
اصلية، وهي القائمة بذاتها من دون حاجة الى غيرها، كحق الملكية وحق الانتفاع وحق السطحية.
وتبعية، وهي كما يدل عليه اسمها، غير مستقلة بذاتها ولا قيام لها الا بالتبع لغيرها، كالرهن المستند على الدين الذي بذمة الراهن.
وقد عدد المشرع المغربي في ظهير 19 رجب عام 1333 (02/06/1915) المحدد للتشريع المطبق على العقارات الحفظة الحقوق العينية الجارية على العقارات المحفظة وحصرها في عشرة، في الفصل الثامن منه. وهي الملكية -الانتفاع- الاحباس- حقا الاستعمال والسكنى، الكراء الطويل الامد، حق السطحية -الرهن الحيازي- حقوق الارتفاقات- الامتيازات والرهون الرسمية- والحقوق العرفية الاسلامية كالجزاء والاستيجار والجلسة والزينة والهواء- وكلها حقوق عينية اصلية ما عدا ثلاثة منها تبعية وهي الرهن الحيازي والرهن الرسمي والامتيازات - وجميع هذه الحقوق العينية العقارية قابلة للتسجيل بالصكوك العقارية باستثناء حقوق الامتيازات فانها معفاة من تسجيلها به.
وسائل الاثبات في مجال التصرفات القانونية:
ان الاصل هو قبول كل وسائل الاثبات لاية واقعة مالم يقض القانون بغير ذلك.
وقد نص الفصل 404 من ق.ز.ع على ان وسائل الاثبات التي يقررها القانون هي:
1) اقرار الخصم.
2) الحجة الكتابية.
3) شهادة الشهود.
4) القرينة.
5) اليمين والنكول عنها.
ونص الفصل 401 منه على انه لا يلزم، لاثبات الالتزامات، أي شكل خاص، الا في الاحوال التي يقرر القانون فيها شكلا معينا. واذا قرر شكلا معينا لم يسغ اجراء اثبات الالتزام اوالتصرف بشكل اخر يخالفه الا في الاحوال التي يستثنيها القانون. وترك المشروع في اخر الفصل المذكور الحرية المطلقة للمتعاقدين، اذا لم يكن العقد خاضعا لشكل خاص، في ان يتفقا صراحة على انهما لا يعتبرانه تاما الا اذا وقع في شكل معين، فيكون العمل على ما اتفقا عليه .
وهذه المقتضيات تتفق مع الاحكام الواردة في الفقه الاسلامي .
ويستنتج مما سبق ان وسائل الاثبات لا تعتبر من النظام العام ما دام المتعاقدون يتمتعون بكامل الحرية في الاتفاق على شكل معين للعقد الذي يريدون ابرامه.
وبالنسبة لوسائل الاثبات في مجال التصرفات العقارية فانها تتفق احيانا وتختلف اخرى حسب كون العقار المراد اثبات التصرف في الحق المتعلق به محفظا او غير محفظ.
اولا - بالنسبة للعقار غير المحفظ:
من المعلوم ان العقارات غيرالمحفظة تجري عليها احكام الفقه الاسلامي، وبالاخص المذهب المالكي الجاري به العمل بالمغرب، بل انها تجري حتى على العقارات المحفظة ما لم تتعارض مع احكام ظهير 12/08/1913 الخاص بالتحفيظ العقاري واحكام ظهير 02/06/1915 المتضمن للتشريع المطبق على العقارات المحفظة، وغيرها من المقتضيات المتعلقة بالعقارات المحفظة - (الفصل 106 من ظهير التحفيظ العقاري) .
وحسب الفقه الاسلامي فان التصرفات العقارية يمكن اثباتها:
1) بالكتابة التي تحرر بها الرسوم العدلية، أي باشهاد اصلي من المتعاقدين على عدلين اثنين، ويقود الموثقين، والعقود العرفية المشهود بصحة امضاءاتها من طرف السلطات المسؤولة عن ذلك والاوراق التي تتضمن اقرارا بحق.
2) وبشهادة الشهود-أي الشهادات الاسترعائية - واقل عددهم اثنا عشر، وهو النصاب المحدد في شهادة غير العدول.
3) وبالاقرار القضائي
4) وباليمين المتممة للنصاب او يمين النكول.
ونقتصر حديثنا على الاثبات بالكتابة والشهود نظرا لاهميتها القصوى، واحتراما للوقت المحدد للمتدخلين.
- الاثبات بواسطة الكتابة :
ان الاثبات بالكتابة، سواء كانت في شكل اشهاد عدلي، او في شكل محرر موثق، او في شكل عقد عرفي، او في شكل اقرار يعد في اعلى مراتب الاثبات .
يقول الاستاذ السنهوري في كتابه الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الثاني، الصفحة 103، الفقرة65 :
" ان طرق الاثبات تنقسم الى طرق ذات قوة مطلقة وطرق ذات قوة محدودة" وطرق معفية من الاثبات".
" اما الطرق ذات القوة المطلقة في الاثبات فهي الطرق التي تصلح لاثبات جميع "الوقائع سواء كانت وقائع مادية او تصرفات قانونية، وايا كانت قيمة الحق المراد اثباته. ولا يوجد "من الطرق التي تعالجها ما هو ذو قوة مطلقة في الاثبات على هذا النحو الا الكتابة، فهي تصلح "لاثبات جميع الوقائع المادية وجميع التصرفات القانونية مهما بلغت قيمة الحق.
" والطرق ذات القوة المحدودة في الاثبات هي الطرق التي تصلح لاثبات بعض الوقائع "القانونية دون بعض. فهي اذن محدودة القوة. وهذه هي البينة والقرائن القضائية، اذ هي "لا تصلح لاثبات التصرفات القانونية اذا زادت قيمتها على عشر جنيهات الا في حالات استثنائية" معينة. وكذلك اليمين المتممة طريق للاثبات ذات قوة محدودة. فهي لا تصلح الا لاتمام "دليل ناقص.
"والطرق المعفية من الاثبات هي الاقرار- أي اقرار الخصم- واليمين الحاسمة"والقرائن القانونية. ولما كانت هذه الطرق تعفي من الاثبات فهي تصلح للاعفاء من اثبات اية "واقعة مادية او أي تصرف قانوني مهما بلغت قيمته، وهي من هذه الناحية ذات قوة مطلقة".
واعتبارا للمزية الكبرى التي تحظى بها الكتابة جاء في كتاب الله المجيد الحض على توثيق الحقوق بها واشهاد العدول عليها، وذلك في الاية الكريمة 281 من سورة البقرة التي تضمنت الامر الصريح بتوثيق الديون والبيوعات يقول الله تعالى :
( يا ايها الذين امنوا اذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل ، ولا ياب كاتب ان يكتب، كما علمه الله فليكتب، وليملل الذي عليه الحق، وليتق الله ربه، ولا يبخس منه شيئا. فان كان الذي عليه الحق سفيها او ضعيفا او لا يستطيع ان يمل هو فليملل وليه بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فان لم يكونا رجلين فرجل وامراتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى. ولا ياب الشهداء اذا ما دعوا، ولا تسئموا ان تكتبوهم صغيرا او كبيرا الى اجله، ذلكم اقسط عند الله، واقوم للشهادة، وادنى ان لا ترتابوا ، الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ان لا تكتبوها. واشهدوا اذا تبايعتم، ولا يضار كاتب ولا شهيد، وان تفعلوا فانه فسوق بكم، واتقوا الله، ويعلمكم الله ، والله بكل شيء عليهم).
وجاء في الاية الثانية من سورة الطلاق ( واشهدوا ذوي عدل منكم ).
وقد قام الخلاف بين الفقهاء في الامر الوارد في قوله تعالى (فاكتبوه) وقوله (واشهدوا اذا تبايعتم) في الاية281 من سورة البقرة السابقة الذكر فكثير من الفقهاء قالوا بالوجوب اخذا بصيغة الامر الدال عليه، وهو الاصل فيه. غير ان الجمهور، ومنهم المالكية، ذهبوا الى القول بانه للندب والارشاد فقط، اذ في ايجاب الكتابة والاشهاد مشقة عظيمة على المتعاقدين ، لان المعاملات كثيرة جدا، وفي كل يوم، فايجاب الكتابة عليهم فيما يتعاملون فيه والاشهاد به على ذوي العدل، فيه حرج شديد لا يطاق، ومن شانه ان يعرقل نشاط الناس في معاملتهم، ويعطل اعمال تجارتهم. والشريعة الاسلامية مبنية على التيسير، ولا على التشديد والتعسير.
والعمل الجاري في المغرب المتمذهب بالمذهب المالكي، ان الاثبات بالكتابة للتصرفات في العقار غير المحفظ غير واجب. فكما يكون التدليل على وجودها بالكتابة يصح ان يكون ايضا بشهادة الشهود، وهو ما يسمى بالبينة الشرعية.