نـــظـــريـــة فـــرويـــد

أولاً : أقسام النفس لدى فرويد:
يجدر بنا مسبقاً التأكيد على أن فرويد لم يهدف بأبحاثه استخلاص نظرية مفسرة للسلوك الإجرامي ، بل كل ما هنالك أنه أراد أن يظهر تأثير اضطرابات الجهاز النفسي للإنسان على السلوك البشري عاماً ، ومنه السلوك الإجرامي.
ونقطة البدء لدى فرويد هي كشفه عن أن للنفس البشرية مظاهر ثلاثة[1] ، نوضحها في الأتي :
أ : الهو أو الذات الدنيا (الأنا الدنيا) :
وهي التي يرمز لها فرويد بالكلمة اللاتينية Id وتعني "هيça ". ويقصد بها مجموعة الغرائز والنزعات والميول الفطرية لدي الفرد التي لا يتقبلها المجتمع بحالها.وهي مستودع الشهوات ومواطن التنازع بين الدوافع والغرائز الموروثة. وهي تنساق وراء اللذة وإشباع الشهوات دون أن تقيم وزناً للقيود الاجتماعية والقيم والمثل المتعارف عليها. وتكمن هذه الميول والنزعات في اللاشعور. فإذا أراد الشخص أن يحيا حياه اجتماعية متوافقة مع المجتمع فإما أن يكبت شهواته ، وإما أن يعبر عنها بالأسلوب المقبول اجتماعياً. فإذا كان للشخص شهوة جنسية تتطلب إشباعاً ، فإما أن يكبتها أو يعبر عنها في قالب النظام الاجتماعي المتعارف علية ، المسمى بالزواج.
ب : الذات المثالية أو الضمير (الأنا العليا) :
واصطلح فرويد على تسميتها Super Ego أو "الأنا العليا Le surmoi" ، والتي تمثل الجانب المثالي والمظهر الروحاني للنفس البشرية. فهي تضم المبادئ الأخلاقية والمثالية المستقاة من القيم الدينية والقواعد الأخلاقية والمبادئ الاجتماعية. وتعتبر "الأنا العليا" أو ما يعرف بالضمير القوة الرادعة للنزوات والشهوات. كما أنه يقوم بمراقبة "الأنا" في إدانتها لوظائفها وانتقاده أو تأنيبه إذا ما استجاب لنزوات الذات الدنيا. فهذه النفس هي النفس اللوامة.
ج : الذات الشعورية أو العقل (الأنا) :
هذا القسم من أقسام النفس يرمز لها فرويد بكلمة Ego وتعني "الأنا Le moi" ، ذلك القسم الذي تشمل مجموعة الملكات الفطرية أو الفكرية المستمدة من رغبات النفس بعد تهذيبها بما يتفق ومقتضيات الحياة الاجتماعية والقيم الأخلاقية. ووظيفة "الأنا" عند فرويد هي محاولة التوفيق بين متطلبات الأنا العليا من جانب وبين النزعات الفطرية الغريزية التي تصعد من الذات الدنيا.
وهذا القسم الأخير من أقسام النفس (الذات الشعورية أو العقل) لدى فرويد يقسمه علماء النفس بدورهم إلى مراتب ثلاث : أولها الشعور أو العقل الظاهر Conscious ، متمثلاً في وسيلة الإدراك المباشر والوعي والإحساس والتخيل والنقد والحكم على الأمور ، أي كل ما يعيه الإنسان ويدركه. أما القسم الثاني فهو ما قبل الشعور أو العقل الكامن ou subconscious Preconscious ، ويقصد به الأفكار والخواطر والخبرات التي في وسع الإنسان أن يستدعيها ويستحضرها باختياره كلما أراد. أما القسم الأخير فهو اللاشعور أو العقل الباطن Unconscious وهو الذي يحوي الأفكار والخواطر وكل ما انتاب الشخص من حوادث تركت بصماتها بداخل النفس ، والتي لا سبيل إلى إيقاظها إلا في حالات الاستثنائية كحلم أو نوبة حمى أو عن طريق التحليل النفسي أو التنويم المغناطيسي. وهذا القسم الأخير أشبه بحجرة "الكرار" في المنزل حين تمتلئ بالذكريات والميول والرغبات ، آملة في الخروج إلى حجرة "الاستقبال" التي هي في هذا المقام الشعور.
والقسمان الأول والثاني يمثلان الجانب الواعي للعقل ، مما دفع فرويد لأن يقصر تقسيم ظواهر النفس على مرتبتين فقط هما الشعور واللاشعور. فألحق ما قبل الشعور أو العقل الكامن بالشعور أو العقل الظاهر ، مستنداً في ذلك إلى وجود قوة خفية - أطلق عليها فرويد اسم "الكبت" Répression - من شأنها صد بعض الذكريات والنزعات والخواطر عن الظهور في منطقة الشعور ، إما لمخالفتها للتقاليد والآداب والعقائد الدينية ، مثل الغريزة الجنسية والميل الجنسي لدى المحارم من الأهل والأقارب ؛ وإما لكونها من قبيل الذكريات المؤلمة أو الخواطر المرتبطة بفاجعة لا يقوى الشعور على تحمل طفوها من جديد في منطقته. فالكبت هو بمثابة الرقيب الذي يفحص ما يهم بالخروج من اللاشعور راغباً في الطفو على سطح الشعور. وهذا الصراع بين الدائرتين أمر غير محسوس ولا يعيه الإنسان.
من هنا يظهر أن فرويد يركز على أهمية اللاشعور أو العقل الباطن في تفسير السلوك الإنساني. ذلك أن ملكات اللاشعور أو العقل الباطن أقوى وأشد تأثيراً في النفس من ملكات الشعور أو العقل الظاهر. فالعقل الباطن يحوي ذكريات الطفولة والخواطر المكبوتة ، فضلا عن الدوافع والميول الفطرية والنزعات الغريزية والموروثة ، بما يجعله مؤثراً على الأفكار والمشاعر والوجدان والسلوك الشعوري. وهذا كله من شأنه أن يجعل للعقل الباطن أثراً واضحاً في اكتساب الشخصية طابعاً خاصاً. وعلى هذا يمكننا أن نتكشف ما يقف وراء السلوك الإنساني من خلال البحث بطريق التحليل النفسي Psychanalyse في مكنون العقل الباطن من خبرات ونزعات ورغبات وميول اختزلت في اللاشعور عبر سنوات الحياة.
وإذا أردنا أن نبين ميكانيزم عملية الاختزال في اللاشعور فعلينا أن نتأمل حياة الطفل فنجدها تبدأ بنزعات غريزية هي في البداية نزعات شعورية ، ثم لا يلبث أن ترتد إلى اللاشعور اثر اصطدامها بالحياة العقلية التقليدية المكتسبة من البيئة والتربية ، وبسبب النزاع بين الميول والنزعات الفطرية وبين تعاليم المجتمع تبدأ عملية الاختزال وتتكون مادة اللاشعور. كما أنه عن طريق الردع والمراقبة المتواصلة للنفس منذ الصغر تتشكل ملكة الكبت وتنمو مع العمر.
ويؤكد فرويد على أنه إذا لم يقترن الكبت بوسائل تصعيد صحيحة أصبح الكبت مرضياً وأصبح تكوين الشخصية الإنسانية مشكلاً على نحو مضطرب عصبياً ونفسياً.
ثانياً : تفسير السلوك الإجرامي عند فرويد :
يرجع فرويد تفسير السلوك الإنساني عامة – ومنه السلوك الإجرامي - إلى أن هناك صراعاً عقلياً Conflit mental يدور بين عوامل الإبداع Créativité ، متمثلة في النزعات الغريزية للإنسان – خاصة الغريزة الجنسية Libido ، وعوامل الهدم Destruction ، ممثلة في تلويح المجتمع بمعاقبة من يخرج على قيمه الأدبية والخلقية. بمعنى آخر أن هناك صراع بين الذات الدنيا بما تمثله من غرائز ونزعات وميول فطرية ، والذات المثالية "الأنا العليا" أو الضمير بما يمثله من قيم مكتسبة ومبادئ سائدة في المجتمع. وهو صراع للذات الشعورية "الأنا" دور فيه يتمثل في محاولة التوفيق بين الرغبات الصادرة عن شهوات الذات الدنيا وبين أوامر الذات المثالية وقيم المجتمع.
فإذا أفلحت الذات الشعورية "الأنا" التوفيق بين رغبات النفس الدنيا وبين قيم الضمير الدينية والخلقية جاء سلوك الإنسان متكيفاً ومنسجماً مع ما تتطلبه الحياة الاجتماعية. وإن أخفقت في إقامة الانسجام بينهما ، فإن الأمر يأخذ أحد مسارين : إما أن يسعى الإنسان إلى كبت رغباته وميوله وغرائزه في منطقة اللاشعور وعدم التعبير عنها إلا من خلال قنوات غير مباشرة كالأحلام مثلاً. وإما التسامي Sublimation بالرغبات والشهوات والميول الفطرية ، والإعلاء منها وتصعيدها بحيث تتحول إلى أنماط سلوكية مقبولة ، فالفرد الذي لا يستطيع إشباع رغبته الجنسية بالزواج يمكن أن يفرغ طاقته العضلية في ممارسة الرياضة. وهذا التسامي أمر – على ما يذكر الدكتور حسن الساعاتي – أصبح متعذر في إطار الحياة الاجتماعية المعقدة المقلقة العنيفة التي أصبحت المحافظة فيها على تقاليد لائقة بالإنسان أمراً شاقاً تستنفذ كل تدبير الفرد وحيلته[2].
ولما كان الإنسان بطبعة عدوانياً Agressive ، وأن عدم ظهور هذا الطبع يرجع إلى التدرب الذاتي والاجتماعي منذ الطفولة على التحكم في نزواتنا ورغباتنا وكبتها وعدم الكشف عنها إلا في القالب الذي يرتضيه المجتمع ، وهذا أمر يتشكل منذ الطفولة إذ يتعود الطفل بالتدريج على أن البعض من طلباته هي التي يمكن إجابتها ، وأنه يجب أن يتقبل إرجاء إشباع الجزء الباقي من الرغبات لوجود قيود مختلفة تحيط بها.
فإذا ما حدث خلل في عملية التدرب على الكبت ، أي أخفقت الذات الشعورية "الأنا" عن التوفيق بين نزعات الذات الدنيا وأوامر الضمير أو الذات المثالية وإخماد تلك النزعات في اللاشعور ، فإن الشخص ربما - من أجل التعبير عن ميوله الغريزية ورغباته الفطرية - يسلك سلوكاً إجرامياً ، أو على الأقل يصبح فرداً عصابياً Neuronique (كإحساسه غير المبرر بالخوف أو بالاضطهاد) أو مهوساً Psychose.
هنا تكون الذات المثالية "الأنا العليا" إما منعدمة الوجود وإما ضعيفة عاجزة عن ممارسة وظيفتها في السمو بالنزعات والميول الفطرية والحرص على إشباع تلك الأخيرة بشكل مشروع يتفق وقيم المجتمع الدينية والخلقية وقواعده القانونية. وكلا الأمرين هو تعبير عن انفلات الذات الدنيا من كل رقابة أو قيد والانطلاق برغباتها ونزواتها من منطقة اللاشعور إلى العالم المحسوس في صورة السلوك الإجرامي.
ولقد كشف فرويد عن وجود مناطق اختلال متعددة في النفس ، تفرز كل واحدة منها نمط مستقل من أنماط الشخصية الإنسانية. وهكذا ظهرت لنا نماذج مرضية أهما الشخصية القلقة ، والمكتئبة ، وهوائية المزاج ، والخيالية ، والمتشككة ، والمصابة ببرود عاطفي ، وضعيفة الإرادة ، والمتخوفة...الخ[3].
ثالثاً : أنماط العُقد لدى فرويد :
على أن فرويد قد كشف عن أن متراكمات اللاشعور قد تتحول إلى شكل عقد نفسية ، قد تدفع الشخص إلى التعبير عنها في صورة رمزية ، وربما قد يصل الأمر في الحالات الحادة إلى التعبير عنها في صورة الجريمة. وقد ذكر من بين ما ذكر عقدة أوديب ، وعقدة الذنب ، وعقدة النقص ، وعقدة الكترا[4].
أ : عقدة أوديب : Complexe d’Oedipe
وعقدة أوديب مصطلح اتخذه فرويد من اسم ملك طيبة وبطل الأسطورة الإغريقية الذي قتل أباه وتزوج أمه على غير علم منه. ولدى فرويد اعتقاد بأن زنا المحارم Inceste حاجة أساسية لدى كل الناس. وتنشأ هذه العقدة من منظور فرويد من تعلق الابن الذكر لا شعورياً بأمه تعلقا جنسياً مصحوباً بالغيرة والكراهية لوالده الذي يرى فيه شخص من ينافسه في حب أمه. ولما كان الابن يرى من جانب آخر حنواً وعطفاً من أباه ، فإنه يتوالد بداخله صراع بين نوعين متناقضين من المشاعر تجاه الأب.
فحين لا تقوم "الأنا" (العقل) بأداء وظيفتها في تطويع هذا الشعور والإحساس لدى الابن بما يتفق مع القيم الدينية والقواعد الأخلاقية والتقاليد الاجتماعية لأدى ذلك إلى أن يبدأ الابن بالتمرد على أباه والخروج على ما قد يفرضه من نظام داخل الأسرة. وفي الحالات المرضية الشديدة قد يعبر الابن عن كره لأباه في صورة سرقة ماله أو إتلاف متعلقاته أو تزوير توقيعه ، وربما يأخذ الأمر مساراً شاذاً فيقتل الابن أباه أو قد يغتصب أمه.
ب : عقدة الذنب Complexe de culpabilité
قد تستعيد "الأنا العليا" في أعقاب ارتكاب السلوك الإجرامي قوتها أو وجودها وتقوم بتوجيه التأنيب اللوم إلى "الأنا" على ضعف رقابتها الذي أنتج هذا السلوك الإجرامي. هنا يتولد لدى الشخص شعور بالذنب قد يدفعه إلى الرغبة في العقاب تكفيراً عما بدا منه ، ويظل هذا الشعور مسيطراً عليه إلى الحد المرضي الذي يدفعه إلى ارتكاب الجريمة رغبة في التطهر والتحرر من هذا الشعور بالذنب عن طريق الخضوع للجزاء الجنائي. ولهذا فإن المصابين بتلك العقدة عادة ما يعمدون إلى ترك دلائل مادية تكشف عن شخصياتهم تمكن السلطات من القبض عليهم وإنزال العقاب بحقهم. ولقد كشف علماء آخرين تأثروا بفرويد – من أمثال فرانز ألكسندر Franz Alexander ووليام هيلي William Healy - عن دور الرغبة في التخفيف من حدة الشعور بالذنب في الدفع إلى سلوك سبيل الجريمة ، وخاصة جريمة السرقة[5].
ج : عقدة النقص Complexe d’infériorité
وهو أحد الصور الرمزية للتعبير عن المشاعر والميول المكبوتة ، تنشأ عن صراع كامن في اللاشعور مرده إحساس الإنسان بنقص في أعضائه الجسمانية أو مظهره الشخصي أو إحساسه بتدني مكانته الاجتماعية وإخفاقه في بلوغ ما كان يصبو إليه من آمال في الحياة. فإذا ما حدث وأفلحت الذات الشعورية أو الأنا في كبت هذا الإحساس في منطقة اللاشعور ، فربما يسعى الشخص نحو تعويض هذا الشعور بالنقص بالتعبير عنه في صورة رمزية في العالم الخارجي في شكل ، سرقة أو فرض سيطرة أو استعمال قوة ، الذي عادة ما يستهدف الشخص بها الظهور والشهرة.
د : عقدة الكترا Complexe d’Electra
وهي عقدة تماثل عقدة أوديب تنشأ من تعلق البنت بأبيها تعلقاً جنسياً وما ينجم عن هذا من غيرة من الأم وكراهية لها إذ تنافسها في حب الأب. وتقع البنت هي الأخرى في صراع بن حب أمها التي تعطف عليها وبين كرهها لها كونها أقرب إلى الأب منها. وإذا نجحت الأنا في كبت هذا الشعور بالكراهية تحت تأثير الضغوط الاجتماعية التي لا تسمح بالتعبير عن السبب الحقيقي لهذا الكره ، فإن البنت قد تعبر عنه رمزياً في صورة التمرد على أمها ، وفي الحالات المرضية يكون بالاعتداء عليها بالضرب أو السرقة ، وفي الحالات الشاذة قد يصل الأمر إلى حد القتل.
رابعاً : تقدير نظرية فرويد :
لا يمكن لأحد أن ينكر فضل مذهب التحليل النفسي في إبرازه أهمية الجانب اللاشعوري أو غير الواعي في بناء الشخصية الإجرامية ، فهذه المنطقة تختزن فيها كل الدوافع الإجرامية ، الأمر الذي كان له أثره في الكشف عن أسباب وبواعث الكثير من الجرائم ، كما كان له أثره في علاج بعض طوائف المجرمين من المرضى النفسانيين والعقليين.
بيد أن هذه النظرية قد تعرضت للعديد من الانتقادات نوجزها في الأتي[6] :
1- عيب على تلك النظرية سقوطها في الخطأ المنهجي. ذلك أن جميع المتغيرات والمفاهيم التي قالت بها يصعب دراستها علمياً والتحقق من فروضها بطريق الملاحظة أو التجربة. فكيف يكمن قياس مفاهيم الأنا والأنا العليا واللاشعور.
2- كما أخذ على تلك النظرية عدم استعانتها بمجموعات ضابطة وعينات كافية ، الأمر الذي أوقعها في خطأ المغالطة الثنائية ، الذي مؤداه افتراض أن الخاضعين للتحليل يمثلون طائفة المجرمين في المجتمع أما غير الخاضعين له فهم من غير المجرمين ، وهو افتراض لا يطابقه أمر من الواقع.
3- وأخيراً فإنه وفقاً لمضمون تلك النظرية فإن السلوك الإجرامي يعود إلى اضطراب نفسي ناشئ عن الخلل في بعض العمليات الأولية المبكرة (الخلل في عملية الفطام مثلاً أو عدم الإشباع أثناء الرضاعة) والتي يتم اختزلها منذ الطفولة الأولى وتظل كامنة في منطقة اللاشعور أو العقل الباطن ، وهو أمر صعب على الباحث تقصي تطوره ونموه خلال هذا الزمن الطويل ، الأمر الذي يتعذر معه إثبات الصلة بين السلوك الإجرامي وبين الخلل الذي يعتقد وجوده في منطقة اللاشعور.
4- ويرتبط بالنقد السابق ما قيل من أن النظرية التحليلية النفسية قد أعلت من قيمة الغريزة الجنسية - سيما ما يتصل بفترات الطفولة الأولى - وأثرها في السلوك الإنساني عامة والإجرامي خاصة.
5- كما قيل بأن تلك النظرية وإن أفلحت في تفسير لماذا يرتكب الشخص جرماً معيناً ، فإنها رغم ذلك لم تفلح في تفسير علة خلع المشرع على فعل ما وصف جريمة. فالمعلوم أن الأفعال محايدة وأن المشرع وحده هو الذي يجعل من فعل جريمة ومن ذات الفعل بطولة. فإزهاق الروح قتل في بعض الفروض ، حق – بحكم الدفاع الشرعي مثلاً – في بعض الفروض الأخرى.
6- وقيل في نقد تلك النظرية أيضاً إغفالها دور العوامل الاجتماعية والظروف البيئية في الدفع نحو الإجرام. فمهما بلغت قوة الخلل النفسي فإنه من المتعذر التسليم باعتباره وحده المخلق للسلوك الإجرامي.
7- كما أخذ على هذه النظرية أنها لا توجد صلة حتمية بين الخلل النفسي الناشئ عن انعدام أو ضعف "الأنا العليا" وبين السلوك الإجرامي. فكثيراً ما يعاني الشخص من مرض نفسي ومع ذلك لا يرتكب سلوكاً إجرامياً. وبالعكس فإن البعض يسقط في هوة الجريمة دونما أن يثبت معاناته من خلل نفسي. هذا فضلا عن أن انعدام أو ضعف "الأنا العليا" (أو الضمير) لا يصلح تفسيراً للجرائم العاطفية والتي يتصف مرتكبيها بقوة الأنا العليا.
8- كما قيل أن منطق هذه النظرية يؤدي إلى القول بأن الجريمة أمر حتمي في حياة الإنسان طالما أن الإنسان محكوم بنزعات ودوافع غريزية لا يستطيع الفكاك والهروب منها. وهو ما يسد الطريق أمام محاولة علاج من يعانون من الاختلالات النفسية.
9- كما قيل أن بعض نتائج تلك النظرية يتناقض مع مقدماتها. فإذا كانت تلك النظرية ترجع الجريمة لأسباب تتعلق بغياب أو ضعف الأنا العليا أو سطوة الذات الدنيا ، فإن المنطق يفرض القول بأن جميع المجرمين يتميزون بالقوة والعنف وانعدام الأحاسيس ، وهو أمر يكذبه واقع الجريمة الفعلي.
10- كما أن منطق تلك النظرية يفرض اعتبار المجرم مريضاً نفسياً يستوجب العلاج لا العقاب ، وفي هذا تضحية بأغراض العقوبة من ردع عام وعدالة.
-----------------
[1] لمزيد من التفصيل حول نظرية فرويد :
P. Bouzat et J. Pinatel, op. cit., p. 272 et s ; G. Stéfani, G. Levasseur et R. Jambu-Merlin, op. cit., p. 183 et s ; J. Léauté, op. cit., p. 72 et s ; Sue Titus Reid, op. cit., p. 159 et s ; R. Gassin , op. cit., p. 182 et s.

المستشار محمد فتحي ، المرجع السابق ، ص78 وما بعدها ، د. سعد جلال ، المرجع السابق ، ص137 وما بعدها ، د. علي كمال ، النفس : انفعالاتها وأمراضها وعلاجها ، ج1 ، ط1 ، الدار العربية ، بغداد ، 1988 ، ص55 وما بعدها ، د. رؤوف عبيد ، المرجع السابق ، ص216 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص38 وما بعدها ، د. عبد الفتاح الصيفي ، المرجع السابق ، ص235 وما بعدها ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص154 وما بعدها ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ،ص90 وما بعدها ، د. جلال ثروت ، المرجع السابق ، ص97 وما بعدها ، د. مأمون سلامة ، المرجع السابق ، ص193 وما بعدها ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص211 وما بعدها ، د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص135 وما بعدها ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص106 وما بعدها ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص84 وما بعدها ، د. عبد المنعم العوضي ، المرجع السابق ، ص100 وما بعدها ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، 159 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص73 وما بعدها ، د. حسن محمد ربيع ، المرجع السابق ، ص104 وما بعدها ، د. سليمان عبد المنعم سليمان ، المرجع السابق ، ص253 وما بعدها ، د. علي عبد القادر القهوجي ود. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص56 وما بعدها.
[2] د. حسن الساعاتي ، التحليل الاجتماعي للشخصية ، المجلة الجنائية القومية ، مارس ، 1958 ، ع1 ، ص80 وما بعدها.
[3] بالتفصيل حول تلك النماذج ، د. مأمون سلامة ، المرجع السابق ، ص193 وما بعدها ، د. سليمان عبد المنعم سليمان ، المرجع السابق ، ص259 وما بعدها.
[4] د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق ، ص154 ، هامش 16-17 ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص155-156 ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص215-216 ، د. عوض محمد عوض ، المرجع السابق ، ص92 ، د. عبد العظيم وزير ، المرجع السابق ، ص91-92 ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص111-112 ، د. فتوح الشاذلي ، المرجع السابق ، ص75 وما بعدها ، د. محمد حسن ربيع ، المرجع السابق ، ص109-110 ، د. سليمان عبد المنعم سليمان ، المرجع السابق ، ص257 وما بعدها.
[5] F. Alexander and W. Healy, Roots of Crime, Alfred A. Knopf, Inc. New York, 1935, p. 285-287.
مشار إليه بواسطة ، د. عدنان الدوري ود. أحمد محمد أضبيعة ، المرجع السابق ، ص217.
[6] لمزيد من التفصيل حول نقد نظرية التحليل النفسي :
G. Vold, Theoretical Criminology, Oxford University Press, 1955, p. 126 and s.


مقتطف من كتاب الـمـدخـل : لدراسة الظاهرة الإجرامية والحق فى العقاب
الجزء الأول : الـظـاهــرة الإجـرامـيـة
دكتور أحـمـد لطـفـى الــســيــد
كلية الحقوق - جامعة المنصورة
قسم القانون الجنائى

منقول