رائد قاسم
لعل من ابرز التباينات ما بين المجتمعين الديني والمدني تتمثل في إن أدوات التغيير والتحديث تصنع في المجتمع الديني في معمل واحد ألا وهو الدين، من خلال أداته التشريعية ( الفقه) لتحلق كافة الأنظمة والقوانين والتشريعات في مداره المركزي ذو الجاذبية الهائلة ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لذلك فان شريحة واحدة في المجتمع ألا وهي رجال الدين هي من تمتلك المفاتيح الإستراتيجية للتغيير ، بينما تشترك في المجتمعات المدنية معظم قوى المجتمع ومنظماته واتجاهاته الحيوية في ممارسة التغيير والتحديث، من خلال سلطة مركزية شرعية ، وبينما يتم التشريع في المجتمع الديني من خلال نظم معقدة ومتضاربة ( الاجتهادات الفقهية ) فان التشريع المدني يقوم على منهج مركزي وضعي شامل لمختلف انتماءات المجتمع ( الدستور) ، وعندما ينطلق التشريع الديني من مبدأ سماوية النص وتابو العقيدة والتجرد من الواقع الموضوعي ، وفرض سلطة النص عليه بحكم القدسية والإلزام ، فان التشريع المدني ينطلق من النسبية والفرضية والتجربة القابلة .
في إطار المجتمع الديني فان التعاليم الدينية تتحول إلى قوانين وأنظمة وأسس للتشريع ، وتتصف بالجمود وصعوبة التغيير أو التطوير في اغلب الأحيان ، مما يوقع المجتمع في تناقضات مركبة ومعضلات اجتماعية عميقة ، ويسبب له نكسة حضارية وتخلف إنساني واسع النطاق، وهذا ما ينطبق على معظم المجتمعات الإسلامية والعربية بشكل عام .
من ناحية أخرى فان بعض أنماط المجتمعات النامية ، لا تخلو كذلك من تخلف حضاري وانهيار للبنى التحتية وشيوع نمط الاستبداد والانغلاق ، وذلك بسبب كون أنظمة الحكم المركزية متسمة بالطغيان والاستبداد والتطرف ، كما في بعض الدول التي تديرها أنظمة علمانية أو قومية أو ماركسية شمولية ، ففي مثل هذه المجتمعات ينعدم أو يتضاءل دور مؤسسات المجتمع المدني والمراكز الخدمية ومؤسسات الأنظمة المركزية ، التي تشكل قاعدة للحياة الاجتماعية والإنسانية في هذا المجتمع أو ذاك ، فالدين مثلا ، باعتباره احد الأنظمة الأساسية في البيئة البشرية ، لا يمكنه ممارسة دوره الحيوي في الجوانب الروحية والتشريعات الاجتماعية والفردية المرتبطة بالضمير في مجتمع يعاني من ضعف في بناه التحتية وتخلف شامل في معظم نشاطاته الحيوية ، وخلل عميق في أسسه وقواعده المحورية ، وضعف في أمنه الجنائي وتراجع في اقتصاده الوطني ، وشيوع العصبيات وسيادة نظم وثقافة التمييز والإقصاء والقمع بمختلف أشكالها في معظم أروقته وأنحاءه ، وانتشار الخمود والخمول كظاهرة مستحكمة في تركيبة أفراده وجماعاته، وتحولها إلى جزء من سمات الشخصية الاجتماعية العامة .
لذلك فان المجتمعات المتخلفة بامتياز كالمجتمعات العربية ، تعاني من انتشار الفتن المذهبية والطائفية ، وتراجع في الأمن الجنائي، كما في العراق ولبنان على سبيل المثال ، وفي بعض المجتمعات السعودية، يمكن رصد ذلك بكل سهولة، ففي المجتمع القطيفي ، الذي يعتبر من أكثر مجتمعات الخليج تدينا وتمسكا بالمورث وبعدا عن الحداثة ، فان مستوى الأمن بشكل عام قد تدنى بشكل واسع النطاق، بالرغم من سيطرة القيم والنظم الدينية وتجسدها الراسخ في الكثير من مظاهر الحياة الاجتماعية ، إلا إن المجتمع القطيفي يعاني منذ عقد تقريبا من كثرة الجرائم وبشاعة الكثير منها، وقد حدثت العديد منها بعد انتهاء المواسم الدينية الرئيسية كعاشوراء، وذلك لكون الدين أصبح مجرد ظاهرة صوتية ! ليس لها قيمة عملية مساهمة أو ضابطه للتنمية والأعمار بسبب انهيار البنى التحتية ، وتخلف الأنظمة المركزية ، وتوقف عجلة التنمية وبناء الإنسان ، وانتشار الظواهر السلبية الخطيرة التي تنخر ببطء في الكيان المجتمعي كالجريمة المنظمة والفساد والاستبداد والطغيان الاجتماعي والسياسي والديني .
في مقابل المجتمع القطيفي كنموذج حي للمجتمعات الدينية التقليدية فان العديد من المجتمعات المدنية النموذجية معروفة بتدني نسبة الجرائم فيها كالسويد والدنمرك وفلندنا ، بل إن بعض الدول يحظر على أفراد شرطتها التسلح بالمسدسات والبنادق، ودبي ( كنموذج عربي) يعيش فيها أكثر من 103 من الجنسيات تتدنى فيها معدلات الجريمة إلى نسب منخفضة قياسا بالكثير من المدن السعودية بشكل عام ، رغم ما تعج به من تزاحم الأنماط الاجتماعية والتضارب الثقافي والتنافس المحموم على الاستثمار وجني الأرباح .
وبطبيعة الحال تختلف دوافع ومسببات الجرائم الجنائية من مجتمع لآخر ، وقد يكون الاختلاف صارخا والتناقض شبه كلي،بيد إن الأسباب في المجتمع القطيفي – من وجهة نظري- لا تعدو كونها نتيجة حتمية لانعدام التنمية وسياسة الإقصاء والإهمال التي دمرت البنى التحتية وجمدت الإنتاجية وأدت إلى تراجع في مستويات التمدن على مستوى الفرد والمجموع ، وتراجع النشاط الاقتصادي وسيادة قيم ونظم وثقافة رجعية نكوصية معادية للنهضة والتمدن .
إن التخلف الاجتماعي الشامل والاستبداد الديني الواسع النطاق وجمود النشاط الاقتصادي والإنتاجي والثقافي ، وضمور آفاق الحياة وسيادة السلوك الاستهلاكي ، وتعقد سبل التواصل الاجتماعي، والانغلاق والعزلة المفروضة داخل المجتمع كنظام جبري إكراهي ، جميعا عوامل أدت إلى شيوع الجرائم وضعف مخرجات مؤسسات السلطة الدينية والرسمية على حد سواء .( 1) لا تخلو الصحف السعودية تقريبا من خبر مفاده انتحار عامل أجنبي أو عاملة منزلية ! وحتى الان لم أنسى تلك المرأة الإيرانية التي شاهدتها قبل عدة سنوات وهي تجوب الأسواق باحثة عمن يشتري ممتلكاتها الشخصية حتى تتمكن من العودة إلى بلادها ، وعندما سألتها عن السبب قالت لي لم أكن أتوقع إن عربستان بهذه الكآبة والوحشة !!!
إن المسبب الأولي لوقوع الجريمة يكمن في تعارض وتناقض المصالح والرغبات والأفكار والآراء ، باتجاهات وأشكال مختلفة ومتعددة ، وظيفة الدولة الأساسية هي وضع برامج تنمية شاملة ودائمة ، في مختلف الأصعدة والمجالات، لتسهيل سبل الحياة وإيجاد مكان لكل فرد في المجتمع للحصول على فرصته وإشباع رغباته وتحقيق تطلعاته من دون تضارب أو احتكاك أو صراع مع الآخرين ، من خلال توفير الفرص وتقنين الصراع بحيث يصبح منافسة مضمونة الأداء والنتيجة بحكم القانون، ووظيفة مؤسسات الدولة الخدمية هي حماية الطبقات والفئات الأقل قدرة على التنافس والحصول على الفرص من خلال دعمها ورعايتها ، سواء من خلال التعليم أو التدريب أو الدعم المعنوي أو الثقافي أو المالي ، بشكل مؤقت أو دائم ، حتى لا يقع جزء من المجتمع فريسة للصراع على الفرص والمكاسب ، مما يؤدي إلى انتشار الجرائم الجنائية أو المالية ، سواء تلك التي ترتكب ضد الأفراد أو المؤسسات العامة أو الخاصة، أو حدوث صراعات سياسية أو مذهبية أو طائفية تهدف إلى إسقاط النظام السياسي الذي يدير مؤسسة الدولة لتطبيق أجندة دينية متطرفة وشوفينية .
في الحالة القطيفية لا شك إن الإدارة المحلية للمحافظة إذا لم تسارع باتخاذ خطوات عملية تصب في صالح المجتمع فان الجريمة سترتفع معدلاتها، ولربما تتجه للنيل من مؤسسات الدولة وموظفيها المدنيين والعسكريين على حد سواء، مما ينذر بعواقب وخيمة، خاصة في ظل الفتن المذهبية والطائفية التي تعج بها المنطقة ، والمجتمع من ناحيته إذا لم يبادر إلى اتخاذ خطوات مسئولة فان الجرائم لربما تتجه إلى مرافقه ومؤسساته وأفراد من طبقاته الغنية والإقطاعية .
إلا إن هذا الخطوة المبدئية قد لا تحدث وان حدثت فعلى استحياء! رغم إن المرض استشرى وأصبح عصيا على المسكنات والأدوية المؤقتة !!
إن الواقع قبيح بحيث لم تعد تنفع معه أي عمليات تجميل ، انه يحتاج إلى تغيير شامل وواسع النطاق ، يشتمل على الكثير من مراحل العلاج المضني بما يستلزمه من أعراض جانبية لا بد منها .
إن المطالبة بتغيير أعضاء الفريق الأمني بالمحافظة لن تجذي نفعا من دون تغيير في القوانين والأنظمة ، ومعالجة شفافة لكافة امتداداتها وظواهرها السلبية المترسخة ، والبرامج الروحية والإرشادية ذات الطابع النظري من جانب المجتمع ، لن تجذي نفعا ولن تحقق نتيجة ما لم يبذل الجهد المشترك المسئول في سبيل تحقيق تنمية اجتماعية محلية فاعلة.
انه لأمر غريب ومحير في محافظة تعج بثروات محلية كبيرة، فما يخرج من فوائض الأموال ، علاوة على عوائد الأوقاف وما يمتلكه المجتمع من سيولة ، يكفي لدرجة مقبولة في انجاز مشاريع استثمارية تصب في خانة التنمية الاجتماعية المحلية ،ولكن ذلك لم يحدث حتى الان، بل إن مساهمة المجتمع ككل في دعم الخدمات العامة ( كالمستشفيات) غير متناسب مع حجم الدخل العام واحتياجات المجتمع الكبيرة ، فمستشفى الدمام المركزي مثلا شارك في بناءه كبار تجاره حاضرة الدمام ، أما محافظة القطيف فان مبادراتها التنموية تبدو مخجلة !!
قبل عدة أيام وصلتني رسالة الكترونية مفادها إن لجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ستتحرك لمواجهة هؤلاء المجرمين !! ويبدوا إن هذه اللجنة العتيدة ستعمد إلى تغيير المنكر بيدها !! مما ينذر بوقوع مواجهات عنيفة ، غير محمودة العواقب والآثار ، بيد إن هذه الطريقة لن تجذي نفعا ، تماما كالذين يعمدون إلى إقامة برامج دينية بهدف كبح جماح العنف والجريمة في مجتمعهم من دون تحقيقهم نتيجة تذكر ، وذلك بسبب عدم كونها جزء فرعيا مكمل لبرنامج مركزي ذو طابع عملي واثر فعلي لصالح المجتمع ، تكون نتيجته إشباع الحاجات من دون اللجوء لوسائل غير شرعية ، وتوفير متطلبات المجتمع الأساسية ، بما يؤدي إلى بث الحيوية والنشاط والإنتاج والإبداع بين أبناءه ، إذ إن الوظيفة الرئيسية للتعاليم الدينية تتمثل في إيجاد أفضل السبل للتعامل الايجابي مع الآثار السلبية للتنمية والنشاط الإنساني الإنتاجي بشكل عام ، لا أن تكون إحدى حلقات أو مؤسساته الأساسية .
ومثلما لن تجذي نفعا السياسات الحكومية التقليدية في مكافحة الجريمة، وذلك بتشديد القبضة الأمنية وسرعة محاكمة المدانين وإنزال العقوبات العلنية بهم، إذ إن الحكومة هنا تظهر كفلاح ابتلي بشجرة خبيثة، فعمد إلى إزالتها ولكنها سرعان ما تظهر له من جديد !! لتهلك حقله وتلوث زرعه وتفسد ثمره ، وكان الأحرى به أن ينزعها من جذورها ويزيل أسباب وجودها ومنبع حياتها حتى لا تعاود الظهور مرة أخرى .
إن التنمية الشاملة والحكم الرشيد بكل ما يحملانه من ثمار الحرية والعدالة والمساواة والرخاء ، السبيل الوحيد لتقليص الجريمة بكافة أشكالها ، بالحرية فقط وفقط تأذن السماء لأشعة الشمس بان تغمر الأرض بنور الإله الأوحد الذي لا ينطفئ أبدا .
لعل من ابرز التباينات ما بين المجتمعين الديني والمدني تتمثل في إن أدوات التغيير والتحديث تصنع في المجتمع الديني في معمل واحد ألا وهو الدين، من خلال أداته التشريعية ( الفقه) لتحلق كافة الأنظمة والقوانين والتشريعات في مداره المركزي ذو الجاذبية الهائلة ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لذلك فان شريحة واحدة في المجتمع ألا وهي رجال الدين هي من تمتلك المفاتيح الإستراتيجية للتغيير ، بينما تشترك في المجتمعات المدنية معظم قوى المجتمع ومنظماته واتجاهاته الحيوية في ممارسة التغيير والتحديث، من خلال سلطة مركزية شرعية ، وبينما يتم التشريع في المجتمع الديني من خلال نظم معقدة ومتضاربة ( الاجتهادات الفقهية ) فان التشريع المدني يقوم على منهج مركزي وضعي شامل لمختلف انتماءات المجتمع ( الدستور) ، وعندما ينطلق التشريع الديني من مبدأ سماوية النص وتابو العقيدة والتجرد من الواقع الموضوعي ، وفرض سلطة النص عليه بحكم القدسية والإلزام ، فان التشريع المدني ينطلق من النسبية والفرضية والتجربة القابلة .
في إطار المجتمع الديني فان التعاليم الدينية تتحول إلى قوانين وأنظمة وأسس للتشريع ، وتتصف بالجمود وصعوبة التغيير أو التطوير في اغلب الأحيان ، مما يوقع المجتمع في تناقضات مركبة ومعضلات اجتماعية عميقة ، ويسبب له نكسة حضارية وتخلف إنساني واسع النطاق، وهذا ما ينطبق على معظم المجتمعات الإسلامية والعربية بشكل عام .
من ناحية أخرى فان بعض أنماط المجتمعات النامية ، لا تخلو كذلك من تخلف حضاري وانهيار للبنى التحتية وشيوع نمط الاستبداد والانغلاق ، وذلك بسبب كون أنظمة الحكم المركزية متسمة بالطغيان والاستبداد والتطرف ، كما في بعض الدول التي تديرها أنظمة علمانية أو قومية أو ماركسية شمولية ، ففي مثل هذه المجتمعات ينعدم أو يتضاءل دور مؤسسات المجتمع المدني والمراكز الخدمية ومؤسسات الأنظمة المركزية ، التي تشكل قاعدة للحياة الاجتماعية والإنسانية في هذا المجتمع أو ذاك ، فالدين مثلا ، باعتباره احد الأنظمة الأساسية في البيئة البشرية ، لا يمكنه ممارسة دوره الحيوي في الجوانب الروحية والتشريعات الاجتماعية والفردية المرتبطة بالضمير في مجتمع يعاني من ضعف في بناه التحتية وتخلف شامل في معظم نشاطاته الحيوية ، وخلل عميق في أسسه وقواعده المحورية ، وضعف في أمنه الجنائي وتراجع في اقتصاده الوطني ، وشيوع العصبيات وسيادة نظم وثقافة التمييز والإقصاء والقمع بمختلف أشكالها في معظم أروقته وأنحاءه ، وانتشار الخمود والخمول كظاهرة مستحكمة في تركيبة أفراده وجماعاته، وتحولها إلى جزء من سمات الشخصية الاجتماعية العامة .
لذلك فان المجتمعات المتخلفة بامتياز كالمجتمعات العربية ، تعاني من انتشار الفتن المذهبية والطائفية ، وتراجع في الأمن الجنائي، كما في العراق ولبنان على سبيل المثال ، وفي بعض المجتمعات السعودية، يمكن رصد ذلك بكل سهولة، ففي المجتمع القطيفي ، الذي يعتبر من أكثر مجتمعات الخليج تدينا وتمسكا بالمورث وبعدا عن الحداثة ، فان مستوى الأمن بشكل عام قد تدنى بشكل واسع النطاق، بالرغم من سيطرة القيم والنظم الدينية وتجسدها الراسخ في الكثير من مظاهر الحياة الاجتماعية ، إلا إن المجتمع القطيفي يعاني منذ عقد تقريبا من كثرة الجرائم وبشاعة الكثير منها، وقد حدثت العديد منها بعد انتهاء المواسم الدينية الرئيسية كعاشوراء، وذلك لكون الدين أصبح مجرد ظاهرة صوتية ! ليس لها قيمة عملية مساهمة أو ضابطه للتنمية والأعمار بسبب انهيار البنى التحتية ، وتخلف الأنظمة المركزية ، وتوقف عجلة التنمية وبناء الإنسان ، وانتشار الظواهر السلبية الخطيرة التي تنخر ببطء في الكيان المجتمعي كالجريمة المنظمة والفساد والاستبداد والطغيان الاجتماعي والسياسي والديني .
في مقابل المجتمع القطيفي كنموذج حي للمجتمعات الدينية التقليدية فان العديد من المجتمعات المدنية النموذجية معروفة بتدني نسبة الجرائم فيها كالسويد والدنمرك وفلندنا ، بل إن بعض الدول يحظر على أفراد شرطتها التسلح بالمسدسات والبنادق، ودبي ( كنموذج عربي) يعيش فيها أكثر من 103 من الجنسيات تتدنى فيها معدلات الجريمة إلى نسب منخفضة قياسا بالكثير من المدن السعودية بشكل عام ، رغم ما تعج به من تزاحم الأنماط الاجتماعية والتضارب الثقافي والتنافس المحموم على الاستثمار وجني الأرباح .
وبطبيعة الحال تختلف دوافع ومسببات الجرائم الجنائية من مجتمع لآخر ، وقد يكون الاختلاف صارخا والتناقض شبه كلي،بيد إن الأسباب في المجتمع القطيفي – من وجهة نظري- لا تعدو كونها نتيجة حتمية لانعدام التنمية وسياسة الإقصاء والإهمال التي دمرت البنى التحتية وجمدت الإنتاجية وأدت إلى تراجع في مستويات التمدن على مستوى الفرد والمجموع ، وتراجع النشاط الاقتصادي وسيادة قيم ونظم وثقافة رجعية نكوصية معادية للنهضة والتمدن .
إن التخلف الاجتماعي الشامل والاستبداد الديني الواسع النطاق وجمود النشاط الاقتصادي والإنتاجي والثقافي ، وضمور آفاق الحياة وسيادة السلوك الاستهلاكي ، وتعقد سبل التواصل الاجتماعي، والانغلاق والعزلة المفروضة داخل المجتمع كنظام جبري إكراهي ، جميعا عوامل أدت إلى شيوع الجرائم وضعف مخرجات مؤسسات السلطة الدينية والرسمية على حد سواء .( 1) لا تخلو الصحف السعودية تقريبا من خبر مفاده انتحار عامل أجنبي أو عاملة منزلية ! وحتى الان لم أنسى تلك المرأة الإيرانية التي شاهدتها قبل عدة سنوات وهي تجوب الأسواق باحثة عمن يشتري ممتلكاتها الشخصية حتى تتمكن من العودة إلى بلادها ، وعندما سألتها عن السبب قالت لي لم أكن أتوقع إن عربستان بهذه الكآبة والوحشة !!!
إن المسبب الأولي لوقوع الجريمة يكمن في تعارض وتناقض المصالح والرغبات والأفكار والآراء ، باتجاهات وأشكال مختلفة ومتعددة ، وظيفة الدولة الأساسية هي وضع برامج تنمية شاملة ودائمة ، في مختلف الأصعدة والمجالات، لتسهيل سبل الحياة وإيجاد مكان لكل فرد في المجتمع للحصول على فرصته وإشباع رغباته وتحقيق تطلعاته من دون تضارب أو احتكاك أو صراع مع الآخرين ، من خلال توفير الفرص وتقنين الصراع بحيث يصبح منافسة مضمونة الأداء والنتيجة بحكم القانون، ووظيفة مؤسسات الدولة الخدمية هي حماية الطبقات والفئات الأقل قدرة على التنافس والحصول على الفرص من خلال دعمها ورعايتها ، سواء من خلال التعليم أو التدريب أو الدعم المعنوي أو الثقافي أو المالي ، بشكل مؤقت أو دائم ، حتى لا يقع جزء من المجتمع فريسة للصراع على الفرص والمكاسب ، مما يؤدي إلى انتشار الجرائم الجنائية أو المالية ، سواء تلك التي ترتكب ضد الأفراد أو المؤسسات العامة أو الخاصة، أو حدوث صراعات سياسية أو مذهبية أو طائفية تهدف إلى إسقاط النظام السياسي الذي يدير مؤسسة الدولة لتطبيق أجندة دينية متطرفة وشوفينية .
في الحالة القطيفية لا شك إن الإدارة المحلية للمحافظة إذا لم تسارع باتخاذ خطوات عملية تصب في صالح المجتمع فان الجريمة سترتفع معدلاتها، ولربما تتجه للنيل من مؤسسات الدولة وموظفيها المدنيين والعسكريين على حد سواء، مما ينذر بعواقب وخيمة، خاصة في ظل الفتن المذهبية والطائفية التي تعج بها المنطقة ، والمجتمع من ناحيته إذا لم يبادر إلى اتخاذ خطوات مسئولة فان الجرائم لربما تتجه إلى مرافقه ومؤسساته وأفراد من طبقاته الغنية والإقطاعية .
إلا إن هذا الخطوة المبدئية قد لا تحدث وان حدثت فعلى استحياء! رغم إن المرض استشرى وأصبح عصيا على المسكنات والأدوية المؤقتة !!
إن الواقع قبيح بحيث لم تعد تنفع معه أي عمليات تجميل ، انه يحتاج إلى تغيير شامل وواسع النطاق ، يشتمل على الكثير من مراحل العلاج المضني بما يستلزمه من أعراض جانبية لا بد منها .
إن المطالبة بتغيير أعضاء الفريق الأمني بالمحافظة لن تجذي نفعا من دون تغيير في القوانين والأنظمة ، ومعالجة شفافة لكافة امتداداتها وظواهرها السلبية المترسخة ، والبرامج الروحية والإرشادية ذات الطابع النظري من جانب المجتمع ، لن تجذي نفعا ولن تحقق نتيجة ما لم يبذل الجهد المشترك المسئول في سبيل تحقيق تنمية اجتماعية محلية فاعلة.
انه لأمر غريب ومحير في محافظة تعج بثروات محلية كبيرة، فما يخرج من فوائض الأموال ، علاوة على عوائد الأوقاف وما يمتلكه المجتمع من سيولة ، يكفي لدرجة مقبولة في انجاز مشاريع استثمارية تصب في خانة التنمية الاجتماعية المحلية ،ولكن ذلك لم يحدث حتى الان، بل إن مساهمة المجتمع ككل في دعم الخدمات العامة ( كالمستشفيات) غير متناسب مع حجم الدخل العام واحتياجات المجتمع الكبيرة ، فمستشفى الدمام المركزي مثلا شارك في بناءه كبار تجاره حاضرة الدمام ، أما محافظة القطيف فان مبادراتها التنموية تبدو مخجلة !!
قبل عدة أيام وصلتني رسالة الكترونية مفادها إن لجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ستتحرك لمواجهة هؤلاء المجرمين !! ويبدوا إن هذه اللجنة العتيدة ستعمد إلى تغيير المنكر بيدها !! مما ينذر بوقوع مواجهات عنيفة ، غير محمودة العواقب والآثار ، بيد إن هذه الطريقة لن تجذي نفعا ، تماما كالذين يعمدون إلى إقامة برامج دينية بهدف كبح جماح العنف والجريمة في مجتمعهم من دون تحقيقهم نتيجة تذكر ، وذلك بسبب عدم كونها جزء فرعيا مكمل لبرنامج مركزي ذو طابع عملي واثر فعلي لصالح المجتمع ، تكون نتيجته إشباع الحاجات من دون اللجوء لوسائل غير شرعية ، وتوفير متطلبات المجتمع الأساسية ، بما يؤدي إلى بث الحيوية والنشاط والإنتاج والإبداع بين أبناءه ، إذ إن الوظيفة الرئيسية للتعاليم الدينية تتمثل في إيجاد أفضل السبل للتعامل الايجابي مع الآثار السلبية للتنمية والنشاط الإنساني الإنتاجي بشكل عام ، لا أن تكون إحدى حلقات أو مؤسساته الأساسية .
ومثلما لن تجذي نفعا السياسات الحكومية التقليدية في مكافحة الجريمة، وذلك بتشديد القبضة الأمنية وسرعة محاكمة المدانين وإنزال العقوبات العلنية بهم، إذ إن الحكومة هنا تظهر كفلاح ابتلي بشجرة خبيثة، فعمد إلى إزالتها ولكنها سرعان ما تظهر له من جديد !! لتهلك حقله وتلوث زرعه وتفسد ثمره ، وكان الأحرى به أن ينزعها من جذورها ويزيل أسباب وجودها ومنبع حياتها حتى لا تعاود الظهور مرة أخرى .
إن التنمية الشاملة والحكم الرشيد بكل ما يحملانه من ثمار الحرية والعدالة والمساواة والرخاء ، السبيل الوحيد لتقليص الجريمة بكافة أشكالها ، بالحرية فقط وفقط تأذن السماء لأشعة الشمس بان تغمر الأرض بنور الإله الأوحد الذي لا ينطفئ أبدا .