السيد الحسن سيمو
يمكن القول منذ البداية ان القضاء المغربي - سواء على مستوى المجلس الاعلى او المحاكم - لا يتسم بالتشدد إلا بالنسبة للأطباء الاختصاصيين كما سنرى عند دراسة القرارات والأحكام الصادرة في هذا المجال، وهذا التشدد لا يصل في غالب الأحيان الى درجة تحميل الطبيب الموظف المسؤولية الشخصية عن خطأه الجسيم ما عدا في حالات نادرة جدا، فكثيرا ما تلجا المحاكم الدنيا الى إلباس المسؤولية الشخصية للموظف رداء المسؤولية الإدارية ويتحول الخطا الشخصي بالتالي الى خطا مرفقي مراعاة للمتضرر كي يحصل على حقوق مضمونة وبأسرع وقت ممكن، وهذا الاتجاه يلاقي على الأغلب تأييدا من طرف المجلس الاعلى .
وسوف نقتصر في هذه المداخلة على التطرق لموقف القضاء من المسؤولية الإدارية بدون خطا " نظرية المخاطر " والمسؤولية بناء على خطا مرفقي ( مصلحي) والمسؤولية المبنية ابتداء على خطا شخصي للموظف وانتهاء بتحمل الدولة تبعة التعويضات المحكوم بها على هذا الموظف في حالة إعساره وينظم الاولى والثانية كما هو معلوم الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود، بينما ينظم الثالثة الفصل 80 من نفس القانون.
كما سنتطرق الى حالات الجمع بين المسؤوليتين الإدارية والشخصية في النازلة الواحدة عندما يثبت الخطا المرفقي والخطا الشخصي للموظف بكفية لا مراء فيها، وتتداخل المسؤوليات بنسب مختلفة.
والأمثلة التي سنسوقها تتعلق بقرارات صادرة عن المجلس الاعلى على سبيل الاستئناف او النقض.
---------------------
1) مداخلة بمناسبة الندوة الشهرية المنظمة من طرف محكمة الاستئناف بالرباط يوم الجمعة 28 شتنبر2001.
---------------------
ونختم المداخلة بالإشارة الى جهة الاختصاص بالنسبة لكل حالة على حدة، ومفهوم الدعوى الاحتياطية (مطالبة الدولة في نهاية المطاف بأداء التعويضات المحكوم بها على الموظف المعسر).
أولا : موقف القضاء من المسؤولية الإدارية
في نطاق الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود :
ان المجلس الاعلى لم يكتف في مجال المسؤولية الإدارية بمراقبة تطبيق الفصول القانونية ومدى انطباقها على النوازل المعروضة على أنظار المحاكم الدنيا، بل تعدى ذلك الى شرح وتغيير تلك الفصول (2).
ففيما يتعلق بالمسؤولية الإدارية المؤسسة على مقتضيات الفصل 79 من ق ل ع : أكد المجلس مرارا على ان هذا الفصل يتضمن حالتين : الحالة الأولى تتعلق بالمسؤولية بدون خطا وتمثلها العبارة الأولى من الفصل المذكور …." الدولة والبلديات مسؤلية عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها …. أما الحالة الثانية فتشملها العبارة الأخيرة من نفس الفصل وتتعلق بالمسؤولية بناء على الخطا …." وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها".
يقول المجلس الاعلى في إحدى حيثيات قراره بهذا الصدد (3) " ان مسؤولية الدولة عن الأضرار الناشئة مباشرة عن تسيير إدارتها تخضع لمقتضيات الفصل 79 من ق ل ع وتترتب هذه المسؤولية عن تسيير مصالح الإدارة ولو بدون خطا ولا تعفى من هذه المسؤولية إلا إذا ثبت ان الضرر يرجع الى خطا ارتكبه الضحية او الى قوة قاهرة".
وجاء في قرار آخر (4) : " الدولة مسؤولة عن الأضرار الناتجة عن تسيير إدارتها مسؤولية مبنية على فكرة المخاطر وليست مبنية على عنصر الخطا، ويكفي لقيام مسؤولية الدولة المبنية على الفصل 79 من ق ل ع إثبات العلاقة السببية دونما حاجة لاثبات الخطا"
-----------------------
2) راجع مداخلتنا بهذا الصدد في العدد : 14 من المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية ( سلسلة مواضيع الساعة) منشورات م م ا م و ت ص : 68.
3) القرار عدد 44 وتاريخ : 23/2/1979 ملف مدني عدد : 43677.
4) قرار عدد 456 وتاريخ 17/11/1979.
-----------------------
لكن المجلس الاعلى استعمل نفس التعليل حتى في حالة المسؤولية الإدارية بناء على خطا مرفقي والمنصوص عليه في الشق الثاني من نفس الفصل (79 من ق ل ع)، إذ جاء في قرار حديث له ما يلي : (5) " وحيث ان التصرف الذي اقدم عليه مركز تحاقن الدم ينطوي على خطا جسيم ليس في حاجة الى إثبات، لان أوراق الملف ومستنداته ووقائع الدعوى لا تدع مجالا للشك في ثبوت مسؤولية احد المرافق التابعة للدولة".
وإذا كان المجلس الاعلى قد تبنى تعليلات المحكمة الإدارية (6) وانتهى الى تأييد حكمها مبدئيا مع رفع التعويض المتعلق بالمصاريف الطبية والتنقل فانه اختلف معها أولا في وصف درجة الخطا وثانيا في الاستغناء عن إثباته، ذلك ان المجلس جارى الوكيل القضائي في المناقشة المتعلقة بعدم توفر الخطا الجسيم لقيام مسؤولية الدولة، مع ان الفصل 79 المذكور لا يشترط جسامة الخطا المصلحي لقيام مسؤولية الدولة، بخلاف ما هو عليه الحال في الفصل 80 من نفس القانون، ولو كانت نية المشرع متجهة الى ذلك لنص عليه أيضا في صلب الفصل 79 من القانون المذكور مثلما فعل أيضا في الفصلين 82 و83 من نفس القانون بالنسبة لقيام مسؤولية الأشخاص العاديين .
ومن جهة ثانية يلاحظ ان المجلس الاعلى المتضرر من إثبات الخطا الجسيم عندما صرح بان هذا الخطا ليس في حاجة الى إثبات وكأنه بهذا التعليل يلبس المسؤولية الإدارية بناء على خطا رداء المسؤولية الإدارية بدون خطا، إذ سبق ان قرر في قراره السالف ذكره عدد 456 وتاريخ 17/11/1978 ان مسؤولية الدولة المبنية على فكرة المخاطر طبقا للشق الأول من الفصل 79 من ق ل ع يكفي لقيامها إثبات العلاقة السببية دونما حاجة لاثبات الخطا، فهل استعمال التعليل الأخير من طرف المجلس في صلب القرار موضوع المناقشة : أي قضية مركز تحاقن الدم معناه انه أراد ان يؤسس
-----------------------------
5) قرار عدد 267 وتاريخ 26/3/1998 في الملف الإداري عدد 180/5/1/97.
6) حكم المحكمة الإدارية بالرباط عدد 144 وتاريخ 20/6/96 في الملف عدد 48/94.
-----------------------------
هذه المسؤولية على الشق الأول من الفصل 79 المتعلق بفكرة المخاطر، أي قيام المسؤولية الإدارية بدون خطا بالرغم من مناقشته لها أول الأمر على أساس المسؤولية المبنية على الخطا المرفقي طبقا للشق الثاني من نفس الفصل 79.
وفي قرار آخر (7) صادر عنه سنة 1994 يناقض تماما ما جاء في القرارين السالف ذكرهما، فهو يساوي بين المسؤولية الإدارية بدون خطا والمسؤولية الإدارية بناء على الخطا المصلحي بخصوص إثبات الخطا المصلحي بعلة ان مسؤولية الدولة طبقا للفصل 79 بشقيه لا تفترض. ومما جاء في القرار : " طبقا للفصل 79 من ق ل ع فان مسؤولية الدولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها، او عن الأخطاء المصلحية لمستخدميها لا تفترض، وانما لا بد من إثبات الخطا المصلحي المنسوب الى احد موظفيها، الملف الحالي خال مما يفيد نسبة الخطا المصلحي الى الهيئة الطبية لمستشفى ابن زهير بمراكش التابع للدولة".
وهكذا يلاحظ من خلال قراءة هذه الحيثيات ان هذا القرار ناقض القرار السابق الصادر في 17/11/1978 كما يتناقض مع القرار اللاحق عليه الصادر في 26 مارس 1998 المتعلق بقضية مركز تحاقن الدم، من حيث انه أوجب إثبات الخطا حتى بالنسبة للمسؤولية بدون خطا كما انه اقر بضرورة إثبات الخطا ( وهو عين الصواب) بالنسبة للمسؤولية الإدارية المبنية على الخطا المصلحي طبقا للشق الثاني من الفصل 79 المذكور خلافا لموقفه في قضية مركز تحاقن الدم - موضوع هذه المقارنة - والتي صرح في قراره الصادر بشأنها في 26/3/1998 بان الخطا الجسيم " الخطا المصلحي" ليس في حاجة الى إثبات .
وموقف المجلس هذا يثير عدة تساؤلات :
التساؤل الأول : لماذا يعفي المجلس المتضرر من إثبات الخطا الجسيم ( للتذكير فدرجة الجسامة غير منصوص عليها في الفصل 79 من ق ل ع) لقيام المسؤولية الإدارية بناء على الخطا المصلحي، ويوجبها عليه إذا كان الخطا عاديا ؟
-----------------------
7) القرار عدد 2391 وتاريخ 6/7/1994 الوكيل القضائي ضد احمد بن عمر .
---------------------
التساؤل الثاني : لماذا يعتبر مسؤولية الدولة مفترضة ويعفي المتضرر من إثبات الخطا الجسيم، في حين يعتبر مسؤولية الدولة غير مفترضة ويوجب على المتضرر إثبات الخطا المصلحي ( الخطا العادي) مع ان الأمر يتعلق في الحالتين معا بالشق الثاني من الفصل 79 ؟
التساؤل الثالث : هل يمكن استعارة مقتضى له حكم محدود لاستعماله في مقتضى آخر له حكم مخالف، وبمعنى آخر هل يمكن إلباس المسؤولية الإدارية بناء على خطا مصلحي رداء المسؤولية الإدارية بناء على فكرة المخاطر ( أي المسؤولية بدون خطا) ؟
هذه التساؤلات نتمنى من المجلس الاعلى ان يجيب عنها في قراراته القادمة.
ثانيا : موقف القضاء المغربي من المسؤولية الشخصية
ينص الفصل 80 من قانون العقود والالتزامات على ما يلي : " مستخدمو الدولة والبلديات مسؤولون شخصيا عن الأضرار الناتجة عن تدليسهم او عن الأخطاء الجسيمة الواقعة منهم في أداء وظائفهم".
حسب هذا الفصل فالموظفون او المستخدمون مسؤولون شخصيا عما ذكر بصفة أصلية وتبقى مع ذلك مسؤولية الدولة معلقة على سبيل الاحتياط في انتظار التأكد من يسر او عسر الموظف المحكوم عليه بتعويض الضرر، فإذا ثبت عسره أصبحت الدولة مسؤولة بحكم القانون عن الخطا الشخصي لموظفيها بحيث يتحول هذا الخطا الشخصي عمليا في نهاية المطاف الى خطا مرفقي يحصل المتضرر على حقوقه سواء في نطاق الفصل 79 من ق ل ع بشقيه ( أي المسؤولية بدون خطا - والمسؤولية بناء على خطا مرفقي) او في نطاق الفصل 80 من نفس القانون بناء على الخطا الشخصي للموظف .
وهكذا صرح المجلس الاعلى في إحدى قراراته (8) بما يلي : " لا تضمن الإدارات حسب التشريع الجاري به العمل أخطاء أعوانها الشخصية إلا في حالة عسر هؤلاء" كما صرح في قرار آخر (9) " ان طلبات المدعي الرامية الى مطالبة الدولة بأداء المبلغ المحكوم به على الموظف المعسر تعتبر في محلها تطبيقا للفصل 80 من ق ل ع".
-------------------
8) القرار عدد 185 وتاريخ 2/5/1962.
9) القرار عدد 835 وتاريخ 26/10/1971 محمد بن العربي ضد الدولة المغربية.
----------------------
ثالثا : المسؤولية المشتركة او تشطير المسؤولية
لا يمكن الحديث عن هذه المسؤولية دون الحديث عن جهة الاختصاص، فالمسؤولية الإدارية دون خطا وبناء على خطا مصلحي ( مرفقي) أصبحت بعد إحداث المحاكم الإدارية في مارس 1994 من اختصاص هذه الأخيرة، وبقي الاختصاص قائما للمحاكم العادية بخصوص المسؤولية الشخصية طبقا للفصل 80 من نفس القانون، لكن هناك حالات دقيقة تتطلب من القضاء والدفاع على السواء الانتباه إليها في حينها حتى لا يتعرض المتضررون للتقاذف بين المحاكم الإدارية والعادية ويسقطون في فخ الاجراءات المتكررة والطويلة المؤدية الى تأخير تعويضهم عن الأضرار اللاحقة بهم بعد فوات الأوان.
الحالة الأولى : رفع الدعوى بكيفية مصححة الى المحكمة الإدارية في نطاق الفصل 79 من ق ا ع بقصد التصريح بمسؤولية الدولة بدون خطا او بناء على خطا مصلحي .
الحالة الثانية : رفع الدعوى بكيفية صحيحة الى المحكمة العادية في نطاق الفصل 80 من نفس القانون بقصد التصريح بمسؤولية الموظف عن خطاه الشخصي.
الحالة الثالثة : رفعها بكيفية جزافية الى المحكمة الإدارية التي تبين لها من خلال المناقشات ان المسؤولية ناتجة عن خطا مصلحي وآخر شخصي حيث يتعين على المتضرر ان يدخل الموظف المساهم في الضرر بخطاه الشخصي في الدعوى ليحكم عليه الى جانب الدولة بأداء الجزء من التعويض المعادل لنصيبه في المسؤولية، وهنا لا يجوز للمحكمة الإدارية ان تصرح بعدم اختصاصها بالنسبة للجزء من المسؤولية لان القاضي الإداري يصبح في مثل هذه الحالة قاضيا اصليا لكل من التعويض عن الضرر الناتج عن الخطا المصلحي والتعويض عن الضرر الناتج عن الخطا الشخصي وذلك استنادا الى مبدا عدم تجزئة الأحكام ومبدا مراعاة حسن سير العدالة .
الحالة الرابعة : دفع الدعوى بكيفية جزافية الى المحكمة العادية التي اتضح لها هي الأخرى أثناء نظر الدعوى ان المسؤولية مشتركة حيث يتعين على المتضرر إدخال الدولة في الدعوى للحصول على تعويض عن الضرر الذي لحقه من جراء الخطا المرفقي ويجب على المحكمة العادية ان تبث في التعويضين معا عن الضرر الناتج عن الخطأين المصلحي والشخصي استنادا الى الفصل 18 من قانون المحاكم الإدارية 41/90 (10) الذي يعطيها هذا الحق (11).
الحالة الخامسة : عندما يثبت إعسار الموظف المحكوم عليه بالتعويض عن الأضرار الناتجة مباشرة عن خطاه الشخصي فان المتضرر يتعين عليه طبقا للفصل 80 من ق ل ع ان يطالب الدولة بأداء التعويض المذكور، وهذه المطالبة في نظري المتواضع لا ينبغي بالضرورة ان تتم في شكل دعوى بالأداء، لان كل المساطر والإجراءات التي تمت في الدعوى الأصلية تغني عن إقامة دعوى جديدة بنفس المساطر والإجراءات والمناقشات لان من شان إقامة دعوى جديدة والحالة هذه تحميل المتضرر أعباء وتكاليف إضافية غير مبررة وإضاعة مزيد من الوقت والجهد هو في غنى عنه، لذا فالأجراء العادل والمنطقي يمكن في تقديم الحكم النهائي والوثائق المثبتة للعسر الى قسم التنفيذ لدى المحكمة المختصة لمتابعة التنفيذ على أموال الدولة عوض أموال الموظف الثابت إعساره، وذلك تفاديا للمزيد من معاناة المتضرر الطويلة .
---------------------
10) هذه الحالة عالجها ذ. عبد الله حداد في مؤلفه " القضاء الإداري المغربي على ضوء القانون المحدث للمحاكم الإدارية ( طبعة 1994).
11) أشار إليها أيضا ذ. احمد ادريوش في مؤلفه " مسؤولية مرافق الصحة العمومية" طبعة 1999.
--------------------
* مجلة المحاكم المغربية، عدد 90، ص 51
يمكن القول منذ البداية ان القضاء المغربي - سواء على مستوى المجلس الاعلى او المحاكم - لا يتسم بالتشدد إلا بالنسبة للأطباء الاختصاصيين كما سنرى عند دراسة القرارات والأحكام الصادرة في هذا المجال، وهذا التشدد لا يصل في غالب الأحيان الى درجة تحميل الطبيب الموظف المسؤولية الشخصية عن خطأه الجسيم ما عدا في حالات نادرة جدا، فكثيرا ما تلجا المحاكم الدنيا الى إلباس المسؤولية الشخصية للموظف رداء المسؤولية الإدارية ويتحول الخطا الشخصي بالتالي الى خطا مرفقي مراعاة للمتضرر كي يحصل على حقوق مضمونة وبأسرع وقت ممكن، وهذا الاتجاه يلاقي على الأغلب تأييدا من طرف المجلس الاعلى .
وسوف نقتصر في هذه المداخلة على التطرق لموقف القضاء من المسؤولية الإدارية بدون خطا " نظرية المخاطر " والمسؤولية بناء على خطا مرفقي ( مصلحي) والمسؤولية المبنية ابتداء على خطا شخصي للموظف وانتهاء بتحمل الدولة تبعة التعويضات المحكوم بها على هذا الموظف في حالة إعساره وينظم الاولى والثانية كما هو معلوم الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود، بينما ينظم الثالثة الفصل 80 من نفس القانون.
كما سنتطرق الى حالات الجمع بين المسؤوليتين الإدارية والشخصية في النازلة الواحدة عندما يثبت الخطا المرفقي والخطا الشخصي للموظف بكفية لا مراء فيها، وتتداخل المسؤوليات بنسب مختلفة.
والأمثلة التي سنسوقها تتعلق بقرارات صادرة عن المجلس الاعلى على سبيل الاستئناف او النقض.
---------------------
1) مداخلة بمناسبة الندوة الشهرية المنظمة من طرف محكمة الاستئناف بالرباط يوم الجمعة 28 شتنبر2001.
---------------------
ونختم المداخلة بالإشارة الى جهة الاختصاص بالنسبة لكل حالة على حدة، ومفهوم الدعوى الاحتياطية (مطالبة الدولة في نهاية المطاف بأداء التعويضات المحكوم بها على الموظف المعسر).
أولا : موقف القضاء من المسؤولية الإدارية
في نطاق الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود :
ان المجلس الاعلى لم يكتف في مجال المسؤولية الإدارية بمراقبة تطبيق الفصول القانونية ومدى انطباقها على النوازل المعروضة على أنظار المحاكم الدنيا، بل تعدى ذلك الى شرح وتغيير تلك الفصول (2).
ففيما يتعلق بالمسؤولية الإدارية المؤسسة على مقتضيات الفصل 79 من ق ل ع : أكد المجلس مرارا على ان هذا الفصل يتضمن حالتين : الحالة الأولى تتعلق بالمسؤولية بدون خطا وتمثلها العبارة الأولى من الفصل المذكور …." الدولة والبلديات مسؤلية عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها …. أما الحالة الثانية فتشملها العبارة الأخيرة من نفس الفصل وتتعلق بالمسؤولية بناء على الخطا …." وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها".
يقول المجلس الاعلى في إحدى حيثيات قراره بهذا الصدد (3) " ان مسؤولية الدولة عن الأضرار الناشئة مباشرة عن تسيير إدارتها تخضع لمقتضيات الفصل 79 من ق ل ع وتترتب هذه المسؤولية عن تسيير مصالح الإدارة ولو بدون خطا ولا تعفى من هذه المسؤولية إلا إذا ثبت ان الضرر يرجع الى خطا ارتكبه الضحية او الى قوة قاهرة".
وجاء في قرار آخر (4) : " الدولة مسؤولة عن الأضرار الناتجة عن تسيير إدارتها مسؤولية مبنية على فكرة المخاطر وليست مبنية على عنصر الخطا، ويكفي لقيام مسؤولية الدولة المبنية على الفصل 79 من ق ل ع إثبات العلاقة السببية دونما حاجة لاثبات الخطا"
-----------------------
2) راجع مداخلتنا بهذا الصدد في العدد : 14 من المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية ( سلسلة مواضيع الساعة) منشورات م م ا م و ت ص : 68.
3) القرار عدد 44 وتاريخ : 23/2/1979 ملف مدني عدد : 43677.
4) قرار عدد 456 وتاريخ 17/11/1979.
-----------------------
لكن المجلس الاعلى استعمل نفس التعليل حتى في حالة المسؤولية الإدارية بناء على خطا مرفقي والمنصوص عليه في الشق الثاني من نفس الفصل (79 من ق ل ع)، إذ جاء في قرار حديث له ما يلي : (5) " وحيث ان التصرف الذي اقدم عليه مركز تحاقن الدم ينطوي على خطا جسيم ليس في حاجة الى إثبات، لان أوراق الملف ومستنداته ووقائع الدعوى لا تدع مجالا للشك في ثبوت مسؤولية احد المرافق التابعة للدولة".
وإذا كان المجلس الاعلى قد تبنى تعليلات المحكمة الإدارية (6) وانتهى الى تأييد حكمها مبدئيا مع رفع التعويض المتعلق بالمصاريف الطبية والتنقل فانه اختلف معها أولا في وصف درجة الخطا وثانيا في الاستغناء عن إثباته، ذلك ان المجلس جارى الوكيل القضائي في المناقشة المتعلقة بعدم توفر الخطا الجسيم لقيام مسؤولية الدولة، مع ان الفصل 79 المذكور لا يشترط جسامة الخطا المصلحي لقيام مسؤولية الدولة، بخلاف ما هو عليه الحال في الفصل 80 من نفس القانون، ولو كانت نية المشرع متجهة الى ذلك لنص عليه أيضا في صلب الفصل 79 من القانون المذكور مثلما فعل أيضا في الفصلين 82 و83 من نفس القانون بالنسبة لقيام مسؤولية الأشخاص العاديين .
ومن جهة ثانية يلاحظ ان المجلس الاعلى المتضرر من إثبات الخطا الجسيم عندما صرح بان هذا الخطا ليس في حاجة الى إثبات وكأنه بهذا التعليل يلبس المسؤولية الإدارية بناء على خطا رداء المسؤولية الإدارية بدون خطا، إذ سبق ان قرر في قراره السالف ذكره عدد 456 وتاريخ 17/11/1978 ان مسؤولية الدولة المبنية على فكرة المخاطر طبقا للشق الأول من الفصل 79 من ق ل ع يكفي لقيامها إثبات العلاقة السببية دونما حاجة لاثبات الخطا، فهل استعمال التعليل الأخير من طرف المجلس في صلب القرار موضوع المناقشة : أي قضية مركز تحاقن الدم معناه انه أراد ان يؤسس
-----------------------------
5) قرار عدد 267 وتاريخ 26/3/1998 في الملف الإداري عدد 180/5/1/97.
6) حكم المحكمة الإدارية بالرباط عدد 144 وتاريخ 20/6/96 في الملف عدد 48/94.
-----------------------------
هذه المسؤولية على الشق الأول من الفصل 79 المتعلق بفكرة المخاطر، أي قيام المسؤولية الإدارية بدون خطا بالرغم من مناقشته لها أول الأمر على أساس المسؤولية المبنية على الخطا المرفقي طبقا للشق الثاني من نفس الفصل 79.
وفي قرار آخر (7) صادر عنه سنة 1994 يناقض تماما ما جاء في القرارين السالف ذكرهما، فهو يساوي بين المسؤولية الإدارية بدون خطا والمسؤولية الإدارية بناء على الخطا المصلحي بخصوص إثبات الخطا المصلحي بعلة ان مسؤولية الدولة طبقا للفصل 79 بشقيه لا تفترض. ومما جاء في القرار : " طبقا للفصل 79 من ق ل ع فان مسؤولية الدولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها، او عن الأخطاء المصلحية لمستخدميها لا تفترض، وانما لا بد من إثبات الخطا المصلحي المنسوب الى احد موظفيها، الملف الحالي خال مما يفيد نسبة الخطا المصلحي الى الهيئة الطبية لمستشفى ابن زهير بمراكش التابع للدولة".
وهكذا يلاحظ من خلال قراءة هذه الحيثيات ان هذا القرار ناقض القرار السابق الصادر في 17/11/1978 كما يتناقض مع القرار اللاحق عليه الصادر في 26 مارس 1998 المتعلق بقضية مركز تحاقن الدم، من حيث انه أوجب إثبات الخطا حتى بالنسبة للمسؤولية بدون خطا كما انه اقر بضرورة إثبات الخطا ( وهو عين الصواب) بالنسبة للمسؤولية الإدارية المبنية على الخطا المصلحي طبقا للشق الثاني من الفصل 79 المذكور خلافا لموقفه في قضية مركز تحاقن الدم - موضوع هذه المقارنة - والتي صرح في قراره الصادر بشأنها في 26/3/1998 بان الخطا الجسيم " الخطا المصلحي" ليس في حاجة الى إثبات .
وموقف المجلس هذا يثير عدة تساؤلات :
التساؤل الأول : لماذا يعفي المجلس المتضرر من إثبات الخطا الجسيم ( للتذكير فدرجة الجسامة غير منصوص عليها في الفصل 79 من ق ل ع) لقيام المسؤولية الإدارية بناء على الخطا المصلحي، ويوجبها عليه إذا كان الخطا عاديا ؟
-----------------------
7) القرار عدد 2391 وتاريخ 6/7/1994 الوكيل القضائي ضد احمد بن عمر .
---------------------
التساؤل الثاني : لماذا يعتبر مسؤولية الدولة مفترضة ويعفي المتضرر من إثبات الخطا الجسيم، في حين يعتبر مسؤولية الدولة غير مفترضة ويوجب على المتضرر إثبات الخطا المصلحي ( الخطا العادي) مع ان الأمر يتعلق في الحالتين معا بالشق الثاني من الفصل 79 ؟
التساؤل الثالث : هل يمكن استعارة مقتضى له حكم محدود لاستعماله في مقتضى آخر له حكم مخالف، وبمعنى آخر هل يمكن إلباس المسؤولية الإدارية بناء على خطا مصلحي رداء المسؤولية الإدارية بناء على فكرة المخاطر ( أي المسؤولية بدون خطا) ؟
هذه التساؤلات نتمنى من المجلس الاعلى ان يجيب عنها في قراراته القادمة.
ثانيا : موقف القضاء المغربي من المسؤولية الشخصية
ينص الفصل 80 من قانون العقود والالتزامات على ما يلي : " مستخدمو الدولة والبلديات مسؤولون شخصيا عن الأضرار الناتجة عن تدليسهم او عن الأخطاء الجسيمة الواقعة منهم في أداء وظائفهم".
حسب هذا الفصل فالموظفون او المستخدمون مسؤولون شخصيا عما ذكر بصفة أصلية وتبقى مع ذلك مسؤولية الدولة معلقة على سبيل الاحتياط في انتظار التأكد من يسر او عسر الموظف المحكوم عليه بتعويض الضرر، فإذا ثبت عسره أصبحت الدولة مسؤولة بحكم القانون عن الخطا الشخصي لموظفيها بحيث يتحول هذا الخطا الشخصي عمليا في نهاية المطاف الى خطا مرفقي يحصل المتضرر على حقوقه سواء في نطاق الفصل 79 من ق ل ع بشقيه ( أي المسؤولية بدون خطا - والمسؤولية بناء على خطا مرفقي) او في نطاق الفصل 80 من نفس القانون بناء على الخطا الشخصي للموظف .
وهكذا صرح المجلس الاعلى في إحدى قراراته (8) بما يلي : " لا تضمن الإدارات حسب التشريع الجاري به العمل أخطاء أعوانها الشخصية إلا في حالة عسر هؤلاء" كما صرح في قرار آخر (9) " ان طلبات المدعي الرامية الى مطالبة الدولة بأداء المبلغ المحكوم به على الموظف المعسر تعتبر في محلها تطبيقا للفصل 80 من ق ل ع".
-------------------
8) القرار عدد 185 وتاريخ 2/5/1962.
9) القرار عدد 835 وتاريخ 26/10/1971 محمد بن العربي ضد الدولة المغربية.
----------------------
ثالثا : المسؤولية المشتركة او تشطير المسؤولية
لا يمكن الحديث عن هذه المسؤولية دون الحديث عن جهة الاختصاص، فالمسؤولية الإدارية دون خطا وبناء على خطا مصلحي ( مرفقي) أصبحت بعد إحداث المحاكم الإدارية في مارس 1994 من اختصاص هذه الأخيرة، وبقي الاختصاص قائما للمحاكم العادية بخصوص المسؤولية الشخصية طبقا للفصل 80 من نفس القانون، لكن هناك حالات دقيقة تتطلب من القضاء والدفاع على السواء الانتباه إليها في حينها حتى لا يتعرض المتضررون للتقاذف بين المحاكم الإدارية والعادية ويسقطون في فخ الاجراءات المتكررة والطويلة المؤدية الى تأخير تعويضهم عن الأضرار اللاحقة بهم بعد فوات الأوان.
الحالة الأولى : رفع الدعوى بكيفية مصححة الى المحكمة الإدارية في نطاق الفصل 79 من ق ا ع بقصد التصريح بمسؤولية الدولة بدون خطا او بناء على خطا مصلحي .
الحالة الثانية : رفع الدعوى بكيفية صحيحة الى المحكمة العادية في نطاق الفصل 80 من نفس القانون بقصد التصريح بمسؤولية الموظف عن خطاه الشخصي.
الحالة الثالثة : رفعها بكيفية جزافية الى المحكمة الإدارية التي تبين لها من خلال المناقشات ان المسؤولية ناتجة عن خطا مصلحي وآخر شخصي حيث يتعين على المتضرر ان يدخل الموظف المساهم في الضرر بخطاه الشخصي في الدعوى ليحكم عليه الى جانب الدولة بأداء الجزء من التعويض المعادل لنصيبه في المسؤولية، وهنا لا يجوز للمحكمة الإدارية ان تصرح بعدم اختصاصها بالنسبة للجزء من المسؤولية لان القاضي الإداري يصبح في مثل هذه الحالة قاضيا اصليا لكل من التعويض عن الضرر الناتج عن الخطا المصلحي والتعويض عن الضرر الناتج عن الخطا الشخصي وذلك استنادا الى مبدا عدم تجزئة الأحكام ومبدا مراعاة حسن سير العدالة .
الحالة الرابعة : دفع الدعوى بكيفية جزافية الى المحكمة العادية التي اتضح لها هي الأخرى أثناء نظر الدعوى ان المسؤولية مشتركة حيث يتعين على المتضرر إدخال الدولة في الدعوى للحصول على تعويض عن الضرر الذي لحقه من جراء الخطا المرفقي ويجب على المحكمة العادية ان تبث في التعويضين معا عن الضرر الناتج عن الخطأين المصلحي والشخصي استنادا الى الفصل 18 من قانون المحاكم الإدارية 41/90 (10) الذي يعطيها هذا الحق (11).
الحالة الخامسة : عندما يثبت إعسار الموظف المحكوم عليه بالتعويض عن الأضرار الناتجة مباشرة عن خطاه الشخصي فان المتضرر يتعين عليه طبقا للفصل 80 من ق ل ع ان يطالب الدولة بأداء التعويض المذكور، وهذه المطالبة في نظري المتواضع لا ينبغي بالضرورة ان تتم في شكل دعوى بالأداء، لان كل المساطر والإجراءات التي تمت في الدعوى الأصلية تغني عن إقامة دعوى جديدة بنفس المساطر والإجراءات والمناقشات لان من شان إقامة دعوى جديدة والحالة هذه تحميل المتضرر أعباء وتكاليف إضافية غير مبررة وإضاعة مزيد من الوقت والجهد هو في غنى عنه، لذا فالأجراء العادل والمنطقي يمكن في تقديم الحكم النهائي والوثائق المثبتة للعسر الى قسم التنفيذ لدى المحكمة المختصة لمتابعة التنفيذ على أموال الدولة عوض أموال الموظف الثابت إعساره، وذلك تفاديا للمزيد من معاناة المتضرر الطويلة .
---------------------
10) هذه الحالة عالجها ذ. عبد الله حداد في مؤلفه " القضاء الإداري المغربي على ضوء القانون المحدث للمحاكم الإدارية ( طبعة 1994).
11) أشار إليها أيضا ذ. احمد ادريوش في مؤلفه " مسؤولية مرافق الصحة العمومية" طبعة 1999.
--------------------
* مجلة المحاكم المغربية، عدد 90، ص 51