صلاحيات القضاة
الفقرة الأولى: تأسيس الاقتناع القضائي
يتمتع القاضي الجنائي بسلطة واسعة لتقدير قيمة ما يعرض عليه من وسائل الإثبات، فقد نصت المادة 266 من ق م ج. على أنه «يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ما عدا في الأحوال التي يقضي القانون فيها بخلاف ذلك ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي» وهذا ما يطلق عليه في إطار النظم القانونية بنظام الإثبات القضائي أو الوجداني، ومفاده أنه يترك للقاضي سلطة واسعة لتقدير قيمة ما يعرض عليه من الحجج في النازلة التي يبث فيها، فإذا عرض عليه مثلا من خلال محضر الشرطة القضائية اعتراف المتهم على نفسه، فله سلطة كاملة لتقدير قيمة ذلك الاعتراف حسب اقتناعه الشخصي، فإذا انتهى به هذا التقدير إلى الحكم ببراءة المتهم لا يكون عمله هذا خرقا لمحضر الشرطة لما له من حجية ما دامو لم ينكروا ما جاء به من اعتراف وإنما استعملوا سلطتهم لتقدير قيمته( ) ولا ينطبق الاقتناع الوجداني على القاضي الجنائي فقط، بل يصدق كذلك على قاضي التحقيق في تقديره للحجج المعروضة عليه، وعلى النيابة العامة عند تقديرها لملاءمة المتابعة ويتجلى الدور المميز للاقتناع القضائي على قرينة البراءة في جواز أن تنبني البراءة على دليل غير مشروع خلافا للإدانة التي لا يجوز أن يستمد للقاضي اقتناعه بها إلا من دليل مشروع وتطبيقا لذلك قضت محكمة النقض ببراءة المتهم من جريمة خيانة الأمانة استنادا إلى شهادة باطلة لأنها صادرة عن شخص ملتزم بكتمان السر( ).
وتطرح مسألة الاقتناع القضائي عندما تعرض على القاضي وسائل تأيد ارتكاب المتهم للفعل الإجرامي ووسائل أخرى تنفي التهم عنه فله كامل الصلاحية في ترجيح إحداها على الأخرى على أنه عمليا يلاحظ أن القضاة أغلبيا يرجحون جانب إثبات التهمة كما لو كان الأصل. لكن الاقتناع القضائي لا يجب أن يفهم منه أنه مطلقا بل ترد عليه حدود، فليس للقاضي الجنائي أن يعطي للحجج معنى غير معقول يتعارض مع الواقع ويعد ضربا فلا يجوز على الإطلاق التعويل على دليل باطل فإن فعلت وكان له أثره المباشر في النتيجة التي انتهت إليها بطل الحكم وبطل معه الدليل، وبطلان الدليل قد يأخذ عدة صور، فقد يتمثل في تناقض أقوال الشهود في أجزاء هامة وحاسمة من المحاكمة بحيث يؤدي ذلك إلى تساقطها ولا يعول عليها بالمرة، وقد تتمثل في مسخ أقوال الشاهد أي تحريفها وإعطائها معان لم يقصدها الشاهد، ومن بين ما قيد به القاضي عند تأسيس اقتناعه وفيه ضمانة هامة للمتهم يتجلى في تعليل حكمه وللمجلس الأعلى في هذا الصدد أن ينقض القضايا التي يوجد بها تناقض في التعليل أو يكون تعليلها غير كاف أو غير مقنع فعلى القاضي الجنائي أن يقتنع ويقنع ويترتب على أصل البراءة ألا تقتنع المحكمة بالإدانة إلا بالبناء على الجزم واليقين لا على الاحتمال أو الترجيح.
* تفسير الشك لفائدة المتهم
إن هدف الدعوى الزجرية هو الوصول إلى تقرير مسؤولية الجاني عما ارتكبه من أفعال جرمية بتحويل الشبهات التي تحوم حوله شيئا فشيئا عن طريق إغناء ملف الدعوى بما يكفي من الحجج إلى يقين لا يداخله شك في ذهن القاضي الحاكم لأنه لا يمكنه أن يحكم بإدانة متهم إلا إذا كان مقتنعا تمام الاقتناع بأنه قد ارتكب الأفعال المنسوبة إليه أما إذا ظل الشك يساور القاضي حول مسؤولية المتهم عما نسب إليه رغم كل الجهود التي بذلت لتكوين قناعته، فإن ذلك الشك ينبغي أن يفسر لمصلحة المتهم وبالتالي الحكم ببراءته وهذه القاعدة تعد من بين الضمانات الأساسية التي تحمي المتهم وتنحدر من المبدأ الأساسي الذي يقضي بأن البراءة هي الأصل إلى أن يثبت العكس( ) وقد أعلنت عن هذا المبدأ ورسخته جملة من النصوص الدولية( ).
وقد مر معنا أن الاقتناع القضائي ضروري لإصدار القاضي أحكامه، فلا يمكن لهذا الاقتناع أن ينبني على الشك لأن الطريق بينهما يمتد بامتداد مراحل الدعوى الجنائية، ولا شك أن لكل مرحلة من هذه المراحل قدرا من الشك وقدرا من اليقين ولكن التصرف على أساسها هو الذي يختلف من مرحلة لأخرى ، فإن كان مقبولا في مرحلتي البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي أن يتغلب الشك على اليقين فتلك طبيعة هذه المراحل لأن اليقين المطلوب هو بالقدر الذي يكفي للإحالة على المحاكمة ولأنها آخر مراحل الدعوى فلا يكفي فيها أقل من الاقتناع التام.
وهذه القاعدة تعد في المواد الجنائية إحدى النتائج المباشرة لقرينة البراءة، فهي الوجه السلبي للاقتناع القضائي والوجه الإيجابي لقرينة البراءة، وقد نص المشرع عليها صراحة في المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية في فقرتها الثانية على أنه «يفسر الشك لفائدة المتهم» ويقصد بها أنه عندما يستشعر القاضي شك في حدوث الواقعة أو في نسبتها إلى المتهم فإنه يتعين تفسير ذلك إلى جانب المتهم والقضاء ببراءته لأنها الأصل فيه وقد يرجع الشك في عدم كفاية أدلة الثبوت أو تضاربها أو عدم وصولها إلى مرتبة الاقتناع لكونها مجرد شبهات ولا يكلف المتهم بنفي هذه الشبهات، بل على النيابة العامة أن تدعمها بالأدلة فإذا هي عجزت تعين الحكم بالبراءة ويمتد نطاق تطبيق هذه القاعدة على الوقائع دون القانون لأنه لا يعذر أحد بجهله القانون ولا يعذر القاضي إذا وقع حائرا أمام نص قانوني، أما الشك في سلامة الواقعة هو الاحتمال الذي ينفي اليقين.
ولكن يشترط لصحة الحكم بالبراءة أن تحيط المحكمة بالدعوى وأدلتها عن بصر وبصيرة، فالبراءة للشك مشروط بما يفيد أن المحكمة محصت الدعوى وأحاطت بظروفها وبأدلة الثبوت والنفي ووازنت بينهما فرجحت دفاع المتهم حتى وإن طعنت النيابة في حكم البراءة سترفض محكمة النقض ذلك الطعن لأن المحكمة ألمت بوقائع الدعوى وإلا نقضت الحكم للقصور في التسبيب( ) وإذا كان يمكن للمحكمة أن تعلل حكمها بالبراءة أساس وجود شك فإنه ليس من المناسب بتاتا أن يشار في منطوق الحكم إلى تعبير “البراءة لفائدة الشك” لأنها الأصل في المتهم ولذلك فإن البراءة واحدة وليس هناك براءة لفائدة الشك وبراءة لفائدة اليقين، وكيفما كان التعليل فإن منطوقه يجب أن يكون خاليا من أي شيء يمس بقرينة البراءة ومن ذلك وصف الحكم في منطوقه بالبراءة لفائدة الشك مما يجعل المعني بالأمر في نظر الرأي العام مشتبها فيه رغم القضاء لم يدنه.
والمحكمة تخضع في ذلك لرقابة محكمة النقض حيث قضت المحكمة العليا في إحدى قراراتها إن القرارات القاضية بالبراءة مثلها مثل القرارات الصادرة بالإدانة، يجب أن تعلل تعليلا كافيا حتى تتمكن المحكمة العليا من مراقبة صحة تطبيق القانون، فالقرار الذي يكتفي بالحكم بالبراءة بقوله أنه يوجد في الدعوى شك لصالح المتهم يعتبر ناقص التسبيب.
وإذا كان القاضي ملزم بتكوين قناعته قبل النطق بالحكم، فهو ملزم أيضا باحترام مجموعة من الإجراءات لإضفاء الشرعية على حكمه وهي في ذاتها صلاحيات خولها له المشرع بصريح نصوص المسطرة الجنائية والتي قد يكون لها تأثير على قرينة البراءة إذا ما استعملت بطريقة خاطئة.

الفقرة الثانية: تسيير الجلسات
باعتبار القاضي هو رئيس الجلسة فقد خول له المشرع صلاحية تسيير الجلسات وضبط النظام فيها، وتوفير محاكمة للمتهم يضمن له فيها عدم المساس بالحقوق المخولة له بمقتضى القانون وحماية له من كل ما قد يخل بنظام الجلسة، وأهم ما يمكن إثارته في هذه النقطة هي مدى مساس سلطته في تأجيل الجلسات بقرينة البراءة (أولا) أو الأمر بإجراء بحث تكميلي (ثانيا) لتأتي فيما بعد مرحلة إصدار الحكم (ثالثا).
أولا: تأجيل الجلسات
ثانيا: الأمر بإجراء بحث تكميلي
ثالثا: إصدار الأحكام

أولا: تأجيل الجلسات
يستحيل عمليا النظر في قضية وإصدار الحكم فيها في جلسة واحدة، ما لم تكن بسيطة، فالواقع في محاكمنا هو بحث القضية ومواصلتها في جلسات متعددة، هكذا نصت المادة 307 من ق م ج. على أنه «إذا تعذر إنهاء بحث القضية أو المناقشات أثناء جلسة واحدة قررت المحكمة مواصلتها في تاريخ معين تحدده فورا».
إلا أن وراء تأجيل الجلسة لا يوجد سبب واحد بل تكثر الأسباب، فقد يرجع السبب إلى طلب من محامي الدفاع بغية استكمال بعض الأدلة أو من أجل استدعاء شهود يكون لهم دور مؤثر على مسار الدعوى بحيث يأمر القاضي بتأجيل النظر في القضية لوقت لاحق والاستجابة لطلبه طالما من حق المتهم استعمال جميع الوسائل لنفي التهم المنسوبة إليه. كما وقد يكون بأمر من المحكمة إذا لم تكن القضية جاهزة للحكم، وقد يكون السبب راجع لأعضاء المحكمة ذاتها بسبب تعذر مشاركة أحد أعضاءها في المداولات ولم يكن قد وقع تعيين أعضاء إضافيين، فيجب تأخير القضية إلى جلسة مقبلة وتعاد المناقشات وهذه السلطة المخولة للقاضي في تأجيل الجلسات لها مساس خطير بقرينة البراءة بحيث تضع بين يديه صلاحية تمديد أو تأجيل الجلسات إلى ما لا نهاية، فإذا كان يفترض أن الأصل في الإنسان البراءة فاتهامه هو استثناءا. إذن يجب الإسراع في محاكمته وليس العكس، فهناك من بقي تحت الاعتقال سنين بسبب التأجيل وصدر بعدها حكم عليه إدانة فقط ب 6 أشهر فمن سيعوضه عن تلك المدة التي كان فيها محبوسا دون أي وجه حق، ناهيك عن نفسيته وعدم ثقته هو ومحيطه بجهاز العدالة ومساعدته على تلقي تكوين إجرامي.
لذا فعندما نص القانون على صلاحية القاضي في تأجيل الجلسة كان عليه أن يقيدها بما يخدم مصلحة المتهم.
ثانيا: الأمر بإجراء بحث تكميلي
تقضي المادة 287 «لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت عليها أثناء الجلسة ونوقشت شفهيا وحضوريا» فهذا هو المبدأ العام الذي يفرض على هيئة الحكم أن تقوم بجميع الإجراءات التحقيق النهائي في الجلسةّ، إلا أنه أحيانا ترى المحكمة صعوبة عملية في الاعتماد فقط على ما عرض عليها من حجج فتأمر بإرجائها للزيادة والبحث فيها واتخاذ جميع التدابير التكميلية، نصت المادة 262 في فقرتها الثانية على أنه «يمكن للمحكمة أن تأمر بإجراء تحقيق تكميلي» ويتضح الدور الكبير الذي يلعبه البحث التكميلي في تدعيم قرينة البراءة. فالزيادة في البحث لإثبات التهم أو التأكد من البراءة أفضل من الإدانة خصوصا وأن هناك مجموعة من الدعاوى تحال من النيابة العامة مباشرة إلى قاضي الحكم دون التدقيق في البحث بسبب تقليص دور قاضي التحقيق. ورغم هذه الأهمية فإن المشرع لم يخصص له إلا المادة السابقة فقط على أن يتم الرجوع في تفاصيله لمقتضيات القسم الثالث من الكتاب الأول ل ق م ج. والمتعلق بقاضي التحقيق.
ففي دراسة نشرت بمجلة القضاء والقانون عدد 126 ص7 وما بعدها نجد صاحب الدراسة يقول إن القاضي الذي يقوم بالبحث التكميلي يحق له أن يوجه الاتهام إلى أشخاص آخرين قياسا على صلاحيات قاضي التحقيق وأن يحيل القضية التي يبحث فيها على أي قاضي أو حتى على قاضي التحقيق ليقوم بدلا عنه بالبحث التكميلي وأن أوامره تستأنف في الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف إسوة بأوامر قاضي التحقيق، وهذا يتعارض مع أبسط المبادئ القانونية فكيف يعقل أن يجمع القاضي الباحث بين سلطتي الاتهام والحكم، فإن كان للقاضي الباحث نفس سلطات قاضي التحقيق لما أمكنه الحكم في القضايا التي يقوم بالتحقيق فيها، فسيكون المتهم تحت رحمة سلطة واحدة وهذا يتعارض مع القانون والضمانات المخولة للمتهم، كذلك الأمر بالنسبة للاستئناف فكيف سيستأنف أمر القاضي في غرفة الجنايات في الغرفة الجنحية بنفس المحكمة.
فكل هذه التأويلات ناتجة عن الفهم الخاطئ للمادة 362 وعدم صفة واضعيها، بحيث أن الإحالة تقتصر فقط على مراعاة القاضي للشكليات التي فرضها القانون على قاضي التحقيق.
وعلى اعتبار أن هيئة الحكم هي التي تنتدب القاضي الباحث لإنجاز إجراءات تكميلية يصعب على هذه الهيئة القيام بها داخل الجلسة العلنية، فإنه يبقى قانونا بين يدي المحكمة، وصلاحياته لا تتعدى سلطات الهيئة الحاكمة التي تنتدبه.
ولا مجال للحديث عن الطعن في أوامره لأنه تابع لهيئة الحكم، فإذا خرق القاضي الباحث نصا آمرا فيكون الإجراء الذي قام به باطلا ويتم استبعاده حماية للمتهم.
ثالثا: إصدار الأحكام
بعدما تنتهي المحكمة من دراسة ومناقشة القضية والإلمام بجميع خيوط لدعوى تصبح القضية جاهزة للنطق فيها بالحكم والذي قد يكون إما حكم حضوري أو بمثابة حضوري أو حكم غيابي حسب الحالات( ). ولكي يكون الحكم صحيحا ومكتسبا لحجية الأمر المقضي به يجب احترامه مجموعة من الشروط والشكليات المحددة بنص القانون أولهما أن يستعمل كل حكم أو قرار أو أمر بالصيغة التالية (المملكة المغربية باسم جلالة الملك)، وقد قرر المجلس الأعلى في عدة أحكام نقض الحكم الذي لم يصدر باسم جلالة الملك. على أن أهم هذه الشروط هي أن يصدر الحكم عن قضاة شاركوا في جميع جلسات الدعوى وإلا كانت الأحكام باطلة وأساس هذا الشرط ن الحكم الجنائي يجب أن يبنى على حجج عرضت أثناء الإجراءات ونوقشت كما سبقت الإشارة لذلك شفهيا وحضوريا وفي هذا المقتضى ضمانة هامة للمتهم فإن كان ممكن لقضاة النيابة العامة تعويض بعضهم بعض أثناء الجلسات فإن قضاة الحكم لابد من ارتباطهم شخصيا بالدعوى من بدايتها إلى حين صدور الحكم النهائي عنهم لأنهم يكونون على علم مسبق بجميع الوقائع التي وعرضت أمامهم وناقشت جميع وسائل الإثبات أو النفي. لدى لا يمكن تغييرهم بآخرين لعدم الإضرار بالمتهمين لأن في هذا المقتضى ضمانة أكثر لهم.
كذلك لا يعتبر الحكم قانونيا إلا بعد مداولته في جلسة سرية والنطق به في جلسة علنية، ويقصد بالمداولة تبادل آراء أعضاء هيئة المحكمة فيما يراه كل منهم تطبيقا سليما للقانون على وقائع الدعوى ومناقشة هذه الآراء للوصول إلى حكم عادل وهنا يشترط القانون الفرنسي أغلبية محددة من الأصوات للحكم بإدانة المتهم والذي ورد النص عليها في المادة 359 من ق. الإجراءات الفرنسي وهو تعبير عن مدى الحماية الجنائية التي يوليها هذا القانون للمتهم بحيث يشترط للحكم بإدانة المتهم أن تتوفر أغلبية 7 أصوات من 12 صوت لأن تساوي الأصوات يعني أن هناك شك في ارتكاب المتهم للجريمة ومن هنا يتبين الدور الذي تلعبه المداولة وطبعا لا مجال لإعمال هذا الشرط إذا كانت المحكمة مكونة من قاض واحد.
نشير أخيرا إلى أن الحكم الصادر عن المحكمة يجب أن يكون محررا ومعللا متضمنا الأسباب الواقعية والقانونية التي اعتمدتها المحكمة لتبرير منطوق الحكم وإلا كان البطلان هو الجزاء وبيان طبيعة المحكمة وطبيعة الحكم هل هو ابتدائي أم نهائي على أنه في حالة الحكم ببراءة المتهم لا يمكن تحميله أداء مصاريف الخزينة ولو جزئيا أما في حالة الإدانة فإن قرينة البراءة لا تنتفي طالما يبقى من حقه الطعن لتدارك ما قد يشوبها من أخطاء إما بواسطة التعرض والإستئناف وإما النقض والمراجعة.
بقي أن نشير إلى مستجد جديد في إطار إصدار القاضي للحكم حيث خول له المشرع سلطة البث وإصدار الحكم فورا في الجرائم التي تتم أثناء الجلسة أو ما يطلق عليها جرائم الجلسات وذلك خلافا للقواعد العامة حيث يسمح لرئيس المحكمة عند ارتكاب أحدهم لمخالفة ضبطية أثناء الجلسة بتحرير محضر بشأنها واستنطاق مرتكبيها والشهود وبعد الإستماع إلى النيابة العامة تطبق الهيأة القضائية حينا العقوبة المقررة في القانون ومن دون ان يسمح بالطعن في هذا الحكم بأية وسيلة، فلهذه السلطة تأثير قوي على حقوق المتهم ومساس بجوهر قرينة البراءة حيث نلاحظ السرعة الفائقة في إصدار الحكم بإدانة المتهم إعطاء القاضي ومنحه سلطتين متناقضتين حيث يجمع بحقه في الإتهام وحقه في إصدار الحكم أما إذا أخذت الجريمة وصف جنحه أو جناية يأمر رئيس المحكمة دائما بتحرير محضر بالوقائع وتحيل مرتكب الفعل والمحضر إلى النيابة العامة لكن هذه المرة مع إمكانية الطعن في الحكم بالإستئناف أو النقض تبعا لما إذا كانت الهيئة المصدرة له من محكمة ابتدائية أو استئنافية ونلاحظ كيفية التفرقة في طريقة الحكم بحسب ما إذا كانت الجرائم جنايات أو جنح أو جنح ضبطية وهذا يقودنا إلى ما سبق ذكره بخصوص التفرقة بين المحاضر وبالتالي خول القانون للهيئة القضائية سلطة متابعة مرتكب الجريمة داخل الجلسة وإصدار الحكم عليه فورا وحرمانه من ظروف التخفيف وعدم مراعاة الظروف الشخصية المتهم حينها وهو يعد الإستثناء الوحيد الذي يخرج فيه المشرع على قاعدة شخصية أو عينية الدعوى.

الفقرة الثالثة: القضاء الفردي
تفعيلا لدور القضاء الجنائي وحرصا على سرعة وفعالية نظام العدالة الجنائية في معالجة القضايا البسيطة، وأيضا القضايا التي تحتاج إلى سرعة البث كالنفقة وأداء واجبات الكراء وغيرها، تم تبني نظام القضاء الفردي للبث في القضايا التي لا تتجاوز العقوبة المقررة لها سنتين حبسا أو مجرد غرامة على اعتبار أن التي تفوق عقوبتها السنتين يتم النظر فيها أمام القضاء الجماعي لأن مدتها تستهل عناء القضاة عكس الأولى، دائما نفس الانتقادات التي توجه إلى المشرع تبقى هي نفسها بتمييزه على أساس مدة العقوبة متناسي أن العقوبة ولو لشهر واحد دائما تخلف نفس الآثار.
وإذا كان نظام القضاء الفردي يعزز الشعور بالمسؤولية لدى القاضي أثناء استعراض وقائع القضية وتكييفها وشعوره بضرورة الإنتاج على نحو تظهر فيه شخصيته ومقدرته. وكما أنه يتيح حسب البعض تفهما أعمق للقضية وإدراكا أفضل لدقائق الأمور والملابسات والسرعة لانعدام المناقشات والتداول والتي تؤدي إلى تأجيل الفصل في القضية فإن سلبياته أكثر من إيجابياته لأن إدانة متهم تتم برأي منفرد يحتمل معه الخطأ خاصة إذا كان القاضي قليل الخبرة، كما أن هذا الأخير هو فرد وعرضة للتأثر بضغوط السلطة وأصحاب النفوذ وهيئة المحامين وهذه ميزة القضاء الجماعي، حيث يحتمي القضاة من الضغوط الخارجية بسرية المداولات بالإضافة إلى أنه يصعب التأثير على عدد من القضاة في آن واحد.
خاتمة البحث حول مفهوم ” قرينة البراءة لدى القضاء الجنائي ”

وأخيرا، فإن جهاز النيابة العامة وبما لديه من مبادئ وسلطات تمس بمبدأ البراءة كما سبق الذكر، وكذلك قاضي التحقيق وما له من سلطات أثناء التحقيق وذلك في حالة ما إذا أنيط به إجراء تحقيق في جريمة ما وما ينتهي به أعمال كلا الجهازين من إمكانية إحالة القضية على قضاء الحكم الذي تقع على عاتقه التزامات في مواجهة المتهم، كما له سلطات عليه وهذا ما تطرقنا إليه في هذا البحث حيث حاولنا أن نقوم بدراسة معمقة لنتمكن من إعطاء الضمانات اللازمة للمتهم تتلاءم وما جاءت به القوانين والمعاهدات المتعلقة بحقوق الإنسان، وفي الختام لا يسعنا إلا التذكير على أنه لتفعيل هذا الأخير عن طريق محاكمة عادلة تضمن حقوقه وعلى رأسها الحق في البراءة لا تتأتى إلا من خلال جهاز قضائي متكامل واع كل الوعي بأهمية العدالة وذا ضمير يقدر حرية الآخر وعقل يعمل جاهدا من أجل ضمانها.
فما مدى وعي المشرع المغربي بهذا؟ وما هي الآليات التي اعتمدها من أجل اختيار وتكوين الأجهزة المنوط بها هذا العمل؟ تماشيا مع مبدأ “إعطني مدونة ركيكية وقضاة مجتهدين خيرا من مدونة بليغة وقضاة عاديين”.