فيصل زوهار
تكاد جميع دول العالم اليوم تملك دستوراً يحدد التنظيم السياسي للدولة، ولذلك قد يتبادر إلى الذهن تعريف القانون الدستوري بأنه "ذلك الفرع من فروع القانون الذي يعني بدراسة القواعد التي يتضمنها الدستور" . ويجدر القول هنا بأن مفهوم الدستور والقانون الدستوري والدستورية تعد من المفاهيم المعقدة بعض الشيء وعلى الأخص في لغتنا العربية وأدبيات دراسة القانون في البلدان العربية ، حتى أن بعض الكتاب المتخصصين في حقل القانون الدستوري التبس عليهم الأمر وخلطوا بين كملتي الدستور والقانون الدستوري وانتهوا إلى القول بأنهما مترادفين . وذهب فريق آخر من الكتاب إلى ضرورة التمييز بين المفهومين وعدم جواز أو صحة الخلط بينهما ، فهم يرون أن القانون الدستوري هو "ذلك النوع من المعرفة من فروع القانون العام الذي يبين نظام الحكم" ، بينما الدستور هو "الأصل الذي تشمل جميع أحكامه الدولة" . وحقيقة الأمر أن القانون الدستوري لا يمكن تعريفه من حيث الشكل وقصر مدلوله على القواعد التي يتضمنها الدستور بل يجب تعريفه من حيث موضوعه أيضاً, وموضوعه سياسي . فالقانون الدستوري هو القانون الذي يطبق على النظم والمؤسسات السياسية وهو القانون الذي تسير عليه الدولة في حياتها السياسية . أما الدستور فيعني الوثيقة الدستورية الخاصة بدولة معينة التي تتضمن أحكام الدولة وتنظيمها السياسي وبالأخص تنظيم السلطة التشريعية وعلاقتها بالسلطة التنفيذية وحقوق الأفراد وحرياتهم العامة. غير أنه يمكن القول بأنه حتى على افتراض صحة هذه التعريفات وأن الدستور هو الموضوع الرئيسي للقانون الدستوري ومصدره الأساسي فإن ذلك لا يعد جامعاً مانعاً ، إذ تؤكد الدراسات في هذا الموضوع بأنه في بعض البلدان ولنأخذ مثلاً المملكة المتحدة ، فدستورها بمعناه الشكلي ، لا يضم إلا جانباً محدوداً من القواعد التي تنظم الحكم[1]، فغالبية هذه القواعد لا يعدوا أن يكون عادات وأعراف وتقاليد تكمل النصوص المكتوبة. وحتى في البلدان التي لها دساتير مدونة تتضمن القواعد المتعلقة بتركيب الدولة وتنظيم الحكم، نجد كثيراً من تلك القواعد لا وجود لها في الدستور، بل تشملها قوانين عادية أو في أنظمة وقرارات المجالس ، وخير مثال على ذلك قوانين الانتخابات ، حيث يترك الدستور للقوانين تحديد بعض القواعد الأساسية المتعلقة بالتنظيم الأساس للدولة ومنها نظام الانتخابات. وقد يتضمن الدستور نصوصاً وأحكاماً لا تمت بصلة مباشرة بالتنظيم السياسي، ومن ثم تخرج هذا القواعد من مجال القانون الدستوري.
أما مفهوم الدستورية فإنه يعني اتساق القوانين والأحكام العامة لمبدأ الدستورية ، أو لمبدأ المشروعية ، وإعلاء الدستور والمبادئ الدستورية العامة على ما عداها ، ومن هنا انبثق عن الدستورية موضوع رقابة الدستور وسموه. وعموماً، فمهما تعددت هذه التعريفات والتفسيرات ومهاما تباينت فهي جميعاً تكاد تجمع على أن القانون الدستوري هو "القانون الأساسي الذي يبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها وهو أيضاً بيان لكيفية تكوين السلطة التشريعية واختصاصاتها وعلاقاتها بغيرها من السلطات.. فالدستور ينظر إليه على أنه أسمى من القوانين العادية، وهذا السمو هو خير ضمانة لحقوق الأفراد وحرياتهم.
ويبين مما تقدم إذن بأن الدستور والقانون الدستوري يتضمن بياناً بطبيعة أو شكل الدولة أي ما إذا كانت الدولة موحدة مثل فرنسا ومصر ، أو دولة فدرالية " دولة تعاهدية " مثل سويسرا أو دولة الإمارات العربية المتحدة أوالولايات المتحدة الأمريكية ، كما أنه يحدد نظام واختصاصات الهيئات العليا التي توجه سياسة الدولة ، تلك الهيئات ، تتكون من السلطة التشريعية (مجلس الأمة " البرلمان") والسلطة التنفيذية ( رئيس الدولة والوزراء )، وكذلك السلطة القضائية، كما تتضمن وفقاً للمفهوم الواسع " الحكومة"، حيث يبين الدستور ما إذا كان نظام الحكم ديمقراطيا برلمانياً أو غير ذلك ، وما إذا كان الحكم رئاسياً . ومن المسائل الهامة جدا التي ينبغي لأي دستور أن يتضمنها هو ما يطلق عليها حقوق الأفراد الأساسية تجاه الدولة، ويطلق عليها أيضاً الحريات العامة التي سيفرد لها بحث خاص وشامل في موضع أخر من هذه الدراسة . أما الكلام عن السلطة التشريعية في الدولة فهي من المسائل التي يعنى بها الدستور بشكل خاص حتى أطلق عليها فقهاء القانون البرلماني Droit Parliamentaireوالجدير بالذكر هنا أن هذه التعريفات المتقدم ذكرها لها أهميتها القصوى التي ستتجلى عند الحديث عن الآثار المترتبة على بقاء ليبيا وإبقاء معمر القذافي لها متعمداً بدون دستور دائم نظراً لإدراكه بخطورة هذا المطلب الأساسي والجوهري على وجوده واستمرارية حكمه لليبيا، فإذا انتهينا إلى إرساء وتثبيت الحقيقة الفقهية القائلة بأن الدستور هو "مجموعة القواعد التي تنظم تأسيس السلطة وانتقالها وممارستها" أي تلك المتعلقة بالتنظيم السياسي. فإن هذه القواعد قد استقر العمل على ضرورة تدوينها وإصدارها ضمن وثيقة رسمية مكتوبة، ودأبت الدول الديمقراطية الحرة المستقلة على تدوين تلك القواعد حتى جعلتها الممارسات المستمرة لهذه الدول وكأنها أمراً واجباً على كل دولة. وسلوك الدول واختيار المنهج –على هذا النحو- وتدوين الوثائق الدستورية في وثائق خطية ، أملته الأسباب والمبررات العملية والقانونية التالية:
1- أن القاعدة القانونية الخطية أي المكتوبة تسمو وتتفوق على القاعدة العرفية ، فهي تتسم بالدقة والوضوح ، الأمر الذي يترتب عليه التزام الحاكم وإلزامه بالتقيد بنصوصها وعدم خرقها ، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على القواعد الدستورية التي تعد من أخطر القواعد القانونية وأقربها بل وأكثرها أثراً في حياة المجتمع والأفراد ، فإذا خالف الحاكم أو السلطة الحاكمة القواعد القانونية المكتوبة وقيمتها الدستورية، أو تجاوز حدود سلطانه واعتدى على حقوق الأفراد وحرياتهم، فإن تلك القواعد القانونية المدونة هي الأداة والضمان القانوني الوحيد الذي يلجم ذلك الحاكم أو سلطاته إذا عقدوا النية على القيام بالاعتداء على حريات ومقدرات الأفراد أو المساس بكيانهم.
2- إن من أهم وسائل تعميم ونشر الوعي السياسي والتربية السياسية لجميع أفراد المجتمع هو قيام الدولة بتدوين الدستور وصياغته بعبارات واضحة. هذا التصرف فيه تأكيد وتعريف للأفراد بحقوقهم، وبه يتزايد تمسكهم بالأمور العامة ويرتقون بذلك إلى مستوى المواطن بمعرفة ماله من حقوق تجاه دولته وما عليه من واجبات لها ، فيسعى طائعاً مختاراً للمساهمة في بنائها وبناء مستقبله.
3- يعد العقد الاجتماعي الأداة التي التزم أفراد المجتمع بمقتضاها بالرابطة الاجتماعية وانتظموا فيه، فالدستور المدون هو تجديد لذلك العقد. فالعقد يخلق المجتمع والدستور يتولى تنظيمه، ويستلزم ذلك أن تكون أحكامه معروفة لجميع الأفراد ومعلنة بشكل رسمي ، والهدف من وراء ذلك هو تعرف الأفراد على الامتيازات التي يتخلون عنها لمصلحة الجماعة والحقوق التي لهم حق وحرية الاحتفاظ بها.. هذا الحقوق ليس للدولة أي شأن بها ، ولا يحق المساس بها أو مصادرتها لأنها حقوق طبيعية ومكتسبة للأفراد بحكم انضمامهم للعقد الاجتماعي .. وحفاظاً على قوة وثبات هذه الحقوق واستمرار سموها وجب تدوينها في وثيقة رسمية [2].
وقبل اختتام هذا الجزء الخاص بتعريفات الدستور والقانون الدستوري والدستورية هناك حقيقة قانونية هامة تتعلق بعدم شرعية الحكم القائم حالياً في الدولة الليبية ، فمن المتعارف عليه أن الدولة -وهي من أشخاص القانون الدولي العام- يستلزم قيامها توافر عناصر هامة حتى تكتسب شرعية قيامها على ترابها وتتمكن أيضاً من التمتع بمركزها القانوني في المجتمع الدولي، ومن هذه العناصر هو تواجد مجموعة الأفراد المكونة للدولة من الجنسين . ويطلق على هذه المجموعة اسم شعب الدولة ، وعلى الأفراد المكونين لها اسم رعايا الدولة ، هؤلاء الأفراد تجمع بينهم رابطة مؤداها ولاءهم للهيئة الحاكمة في الدولة وخضوعهم لقوانينها مقابل تمتعهم بحمايتها . وبتطبيق هذا العنصر الهام لمكونات الدولة على الوضع في ليبيا وعلى شعبنا الليبي ، نراه منعدماً تماماً ، لانتفاء هذه الرابطة بين الشعب والحاكم ، فرغم تمتع الرعايا الليبيين بحقهم في الانتماء للدولة برابطة الجنسية ، إلا أنهم لا يكنون عنصر الولاء للهيئة الحاكمة باستثناء عناصر السلطة العليا لنظام القذافي الذين يشكلون مراكز القوى وأدوات الفتك في جماهيريته، فهم قد اختاروا أو إنهم ملزمون بإظهار وتقديم الولاء للسلطة الحاكمة لضمان استمرار تواجدهم ضمن عناصرها الفعالة وتمتعهم بمراكزهم القوية وتحقيق مصالحهم الشخصية، كما أن الهيئة الحاكمة التي يرأسها القذافي وأعوانه لا تقوم في الغالب بحماية الرعايا الليبيين بل تسعى هذه الهيئة لتجريد الشعب من حقوقه الأساسية وحرمانه من ثرواته أو العبث بها وبمقدرات الشعب الليبي ، فانعدام رابطة ولاء الشعب للهيئة الحاكمة ونقص أو انعدام حماية الهيئة لرعاياها في رأي أغلبية فقهاء القانون الدستوري دليلا دامغاً على عدم شرعية تلك الهيئة الحاكمة التي يجب العمل على اجتثاثها والقضاء عليها . ولما كانت الأمة هي الأساس الطبيعي للبناء الذي ينبغي أن تقوم عليه الدولة إذا فإن الانفصال والتناقض بين الأمة والدولة معناه وجود انفصال بين سلطة الدولة والقوى الاجتماعية التي تجسد المطامح والآمال الجماعية وقد ينشأ عن ذلك صراع قوي تمهيداً للتكيف والتلاؤم أو العمل على استبدال الحاكم والسلطة الحاكمة لمنع حدوث أي تباعد أو تعارض بينهم وبين تلك القوى الاجتماعية الشعبية.
المراجع الاساسية
قلوش، مصطفى.المبادئ العامة للقانون الدستوري / مصطفى قلوش . - الرباط : شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع, 1995
قلوش، مصطفى.القانون الدستوري : النظرية العامة / مصطفى قلوش . - الرباط : مكتبة دار السلام, 2004
الفاسي الفهري، يوسف.القانون الدستوري : [الإشكالات النظرية ... المفاهيم الإجرائية] / يوسف الفاسي الفهري . - فاس : مطبعة أنفو برانت, 1997
الصروخ، مليكة.القانون الدستوري : المبادئ العامة للقانون الدستوري، القواعد الدستورية، القانون الدستوري المغربي / الدكتورة مليكة الصروخ . - الدار البيضاء : مطبعة النجاح الجديدة, 1998 .
مطيع، المختار.القانون الدستوري و أنظمة الحكم المعاصرة : المبادئ العامة للقانون الدستوري، المؤسسات الحاكمة في بريطانيا و الو.م.أ. و فرنسا، النظام السياسي الدستوري المغربي / المختار مطيع . - الدار البيضاء : مطبعة النجاح الجديدة, 1998 .
الغزال، إسماعيل.القانون الدستوري و النظم السياسية / إسماعيل الغزال . - بيروت : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع, 1987 .
هوريو، أندريه.القانون الدستوري والمؤسسات السياسية / أندريه هوريو ؛ نقله إلى العربية علي مقلد، شفيق حداد، عبد الحسن سعد . - بيروت : المؤسسة الأهلية للطباعة والنشر, 1974 .
دوفرجيه، موريس.المؤسسات السياسية و القانون الدستوري : الأنظمة السياسية الكبرى / موريس دوفرجيه ؛ ترجمة جورج سعد . - بيروت : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع, 1992 .
صاصيلا، محمد عرب.الموجز في القانون الدستوري / محمد عرب صاصيلا . - الدار البيضاء : مطبعة النجاح الجديدة, 1981 .
مالكي، امحمد.الوجيز في القانون الدستوري و المؤسسات السياسية : المفاهيم الأساسية، النظام السياسي المغربي / امحمد مالكي . - مراكش : المطبعة والوراقة الوطنية, 2001 .
أتركين، محمد.الهندسة الدستورية للقضاء المغربي ومعادلة استقلال القضاء / الدكتور محمد أتركين.في مجلة الحقوق المغربية : مجلة مغربية قانونية تصدر كل نصف سنة = Revue du droit marocain . - ع. 2-3 (2007)
معتصم، محمد.تأملات في حصيلة وآفاق 30 سنة من الممارسة الدستورية المغربية / محمد معتصم.في المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية = Revue marocaine de droit et d économie du développement . - ع. 30 (1993)
المنار اسليمي، عبد الرحيم.تجربة الغرفة الدستورية بالمغرب : قراءة سوسيوقضائية في الاجتهاد الدستوري السابق / عبد الرحيم المنار اسليمي.في المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية = Revue marocaine d administration locale et de développement . - ع. 56 (2004)
معتصم، محمد.ملخص ندوة 30 سنة من الحياة الدستورية بالمغرب : الحصيلة والآفاق / محمد معتصم.في مجلة القانون والاقتصاد = Revue de droit et d économie . - ع. 11 (1995) .
حامي الدين، عبد العلي.إشكالية الإصلاح السياسي والدستوري في المغرب / د. عبد العلي حامي الدين.في مسالك في الفكر والسياسة والاقتصاد .
المدني، محمد.الإصلاح الدستوري / محمد المدني.في وجهة نظر : مجلة تعنى بقضايا السياسة والفكر . - ع. 25-26 (2005).
تكاد جميع دول العالم اليوم تملك دستوراً يحدد التنظيم السياسي للدولة، ولذلك قد يتبادر إلى الذهن تعريف القانون الدستوري بأنه "ذلك الفرع من فروع القانون الذي يعني بدراسة القواعد التي يتضمنها الدستور" . ويجدر القول هنا بأن مفهوم الدستور والقانون الدستوري والدستورية تعد من المفاهيم المعقدة بعض الشيء وعلى الأخص في لغتنا العربية وأدبيات دراسة القانون في البلدان العربية ، حتى أن بعض الكتاب المتخصصين في حقل القانون الدستوري التبس عليهم الأمر وخلطوا بين كملتي الدستور والقانون الدستوري وانتهوا إلى القول بأنهما مترادفين . وذهب فريق آخر من الكتاب إلى ضرورة التمييز بين المفهومين وعدم جواز أو صحة الخلط بينهما ، فهم يرون أن القانون الدستوري هو "ذلك النوع من المعرفة من فروع القانون العام الذي يبين نظام الحكم" ، بينما الدستور هو "الأصل الذي تشمل جميع أحكامه الدولة" . وحقيقة الأمر أن القانون الدستوري لا يمكن تعريفه من حيث الشكل وقصر مدلوله على القواعد التي يتضمنها الدستور بل يجب تعريفه من حيث موضوعه أيضاً, وموضوعه سياسي . فالقانون الدستوري هو القانون الذي يطبق على النظم والمؤسسات السياسية وهو القانون الذي تسير عليه الدولة في حياتها السياسية . أما الدستور فيعني الوثيقة الدستورية الخاصة بدولة معينة التي تتضمن أحكام الدولة وتنظيمها السياسي وبالأخص تنظيم السلطة التشريعية وعلاقتها بالسلطة التنفيذية وحقوق الأفراد وحرياتهم العامة. غير أنه يمكن القول بأنه حتى على افتراض صحة هذه التعريفات وأن الدستور هو الموضوع الرئيسي للقانون الدستوري ومصدره الأساسي فإن ذلك لا يعد جامعاً مانعاً ، إذ تؤكد الدراسات في هذا الموضوع بأنه في بعض البلدان ولنأخذ مثلاً المملكة المتحدة ، فدستورها بمعناه الشكلي ، لا يضم إلا جانباً محدوداً من القواعد التي تنظم الحكم[1]، فغالبية هذه القواعد لا يعدوا أن يكون عادات وأعراف وتقاليد تكمل النصوص المكتوبة. وحتى في البلدان التي لها دساتير مدونة تتضمن القواعد المتعلقة بتركيب الدولة وتنظيم الحكم، نجد كثيراً من تلك القواعد لا وجود لها في الدستور، بل تشملها قوانين عادية أو في أنظمة وقرارات المجالس ، وخير مثال على ذلك قوانين الانتخابات ، حيث يترك الدستور للقوانين تحديد بعض القواعد الأساسية المتعلقة بالتنظيم الأساس للدولة ومنها نظام الانتخابات. وقد يتضمن الدستور نصوصاً وأحكاماً لا تمت بصلة مباشرة بالتنظيم السياسي، ومن ثم تخرج هذا القواعد من مجال القانون الدستوري.
أما مفهوم الدستورية فإنه يعني اتساق القوانين والأحكام العامة لمبدأ الدستورية ، أو لمبدأ المشروعية ، وإعلاء الدستور والمبادئ الدستورية العامة على ما عداها ، ومن هنا انبثق عن الدستورية موضوع رقابة الدستور وسموه. وعموماً، فمهما تعددت هذه التعريفات والتفسيرات ومهاما تباينت فهي جميعاً تكاد تجمع على أن القانون الدستوري هو "القانون الأساسي الذي يبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها وهو أيضاً بيان لكيفية تكوين السلطة التشريعية واختصاصاتها وعلاقاتها بغيرها من السلطات.. فالدستور ينظر إليه على أنه أسمى من القوانين العادية، وهذا السمو هو خير ضمانة لحقوق الأفراد وحرياتهم.
ويبين مما تقدم إذن بأن الدستور والقانون الدستوري يتضمن بياناً بطبيعة أو شكل الدولة أي ما إذا كانت الدولة موحدة مثل فرنسا ومصر ، أو دولة فدرالية " دولة تعاهدية " مثل سويسرا أو دولة الإمارات العربية المتحدة أوالولايات المتحدة الأمريكية ، كما أنه يحدد نظام واختصاصات الهيئات العليا التي توجه سياسة الدولة ، تلك الهيئات ، تتكون من السلطة التشريعية (مجلس الأمة " البرلمان") والسلطة التنفيذية ( رئيس الدولة والوزراء )، وكذلك السلطة القضائية، كما تتضمن وفقاً للمفهوم الواسع " الحكومة"، حيث يبين الدستور ما إذا كان نظام الحكم ديمقراطيا برلمانياً أو غير ذلك ، وما إذا كان الحكم رئاسياً . ومن المسائل الهامة جدا التي ينبغي لأي دستور أن يتضمنها هو ما يطلق عليها حقوق الأفراد الأساسية تجاه الدولة، ويطلق عليها أيضاً الحريات العامة التي سيفرد لها بحث خاص وشامل في موضع أخر من هذه الدراسة . أما الكلام عن السلطة التشريعية في الدولة فهي من المسائل التي يعنى بها الدستور بشكل خاص حتى أطلق عليها فقهاء القانون البرلماني Droit Parliamentaireوالجدير بالذكر هنا أن هذه التعريفات المتقدم ذكرها لها أهميتها القصوى التي ستتجلى عند الحديث عن الآثار المترتبة على بقاء ليبيا وإبقاء معمر القذافي لها متعمداً بدون دستور دائم نظراً لإدراكه بخطورة هذا المطلب الأساسي والجوهري على وجوده واستمرارية حكمه لليبيا، فإذا انتهينا إلى إرساء وتثبيت الحقيقة الفقهية القائلة بأن الدستور هو "مجموعة القواعد التي تنظم تأسيس السلطة وانتقالها وممارستها" أي تلك المتعلقة بالتنظيم السياسي. فإن هذه القواعد قد استقر العمل على ضرورة تدوينها وإصدارها ضمن وثيقة رسمية مكتوبة، ودأبت الدول الديمقراطية الحرة المستقلة على تدوين تلك القواعد حتى جعلتها الممارسات المستمرة لهذه الدول وكأنها أمراً واجباً على كل دولة. وسلوك الدول واختيار المنهج –على هذا النحو- وتدوين الوثائق الدستورية في وثائق خطية ، أملته الأسباب والمبررات العملية والقانونية التالية:
1- أن القاعدة القانونية الخطية أي المكتوبة تسمو وتتفوق على القاعدة العرفية ، فهي تتسم بالدقة والوضوح ، الأمر الذي يترتب عليه التزام الحاكم وإلزامه بالتقيد بنصوصها وعدم خرقها ، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على القواعد الدستورية التي تعد من أخطر القواعد القانونية وأقربها بل وأكثرها أثراً في حياة المجتمع والأفراد ، فإذا خالف الحاكم أو السلطة الحاكمة القواعد القانونية المكتوبة وقيمتها الدستورية، أو تجاوز حدود سلطانه واعتدى على حقوق الأفراد وحرياتهم، فإن تلك القواعد القانونية المدونة هي الأداة والضمان القانوني الوحيد الذي يلجم ذلك الحاكم أو سلطاته إذا عقدوا النية على القيام بالاعتداء على حريات ومقدرات الأفراد أو المساس بكيانهم.
2- إن من أهم وسائل تعميم ونشر الوعي السياسي والتربية السياسية لجميع أفراد المجتمع هو قيام الدولة بتدوين الدستور وصياغته بعبارات واضحة. هذا التصرف فيه تأكيد وتعريف للأفراد بحقوقهم، وبه يتزايد تمسكهم بالأمور العامة ويرتقون بذلك إلى مستوى المواطن بمعرفة ماله من حقوق تجاه دولته وما عليه من واجبات لها ، فيسعى طائعاً مختاراً للمساهمة في بنائها وبناء مستقبله.
3- يعد العقد الاجتماعي الأداة التي التزم أفراد المجتمع بمقتضاها بالرابطة الاجتماعية وانتظموا فيه، فالدستور المدون هو تجديد لذلك العقد. فالعقد يخلق المجتمع والدستور يتولى تنظيمه، ويستلزم ذلك أن تكون أحكامه معروفة لجميع الأفراد ومعلنة بشكل رسمي ، والهدف من وراء ذلك هو تعرف الأفراد على الامتيازات التي يتخلون عنها لمصلحة الجماعة والحقوق التي لهم حق وحرية الاحتفاظ بها.. هذا الحقوق ليس للدولة أي شأن بها ، ولا يحق المساس بها أو مصادرتها لأنها حقوق طبيعية ومكتسبة للأفراد بحكم انضمامهم للعقد الاجتماعي .. وحفاظاً على قوة وثبات هذه الحقوق واستمرار سموها وجب تدوينها في وثيقة رسمية [2].
وقبل اختتام هذا الجزء الخاص بتعريفات الدستور والقانون الدستوري والدستورية هناك حقيقة قانونية هامة تتعلق بعدم شرعية الحكم القائم حالياً في الدولة الليبية ، فمن المتعارف عليه أن الدولة -وهي من أشخاص القانون الدولي العام- يستلزم قيامها توافر عناصر هامة حتى تكتسب شرعية قيامها على ترابها وتتمكن أيضاً من التمتع بمركزها القانوني في المجتمع الدولي، ومن هذه العناصر هو تواجد مجموعة الأفراد المكونة للدولة من الجنسين . ويطلق على هذه المجموعة اسم شعب الدولة ، وعلى الأفراد المكونين لها اسم رعايا الدولة ، هؤلاء الأفراد تجمع بينهم رابطة مؤداها ولاءهم للهيئة الحاكمة في الدولة وخضوعهم لقوانينها مقابل تمتعهم بحمايتها . وبتطبيق هذا العنصر الهام لمكونات الدولة على الوضع في ليبيا وعلى شعبنا الليبي ، نراه منعدماً تماماً ، لانتفاء هذه الرابطة بين الشعب والحاكم ، فرغم تمتع الرعايا الليبيين بحقهم في الانتماء للدولة برابطة الجنسية ، إلا أنهم لا يكنون عنصر الولاء للهيئة الحاكمة باستثناء عناصر السلطة العليا لنظام القذافي الذين يشكلون مراكز القوى وأدوات الفتك في جماهيريته، فهم قد اختاروا أو إنهم ملزمون بإظهار وتقديم الولاء للسلطة الحاكمة لضمان استمرار تواجدهم ضمن عناصرها الفعالة وتمتعهم بمراكزهم القوية وتحقيق مصالحهم الشخصية، كما أن الهيئة الحاكمة التي يرأسها القذافي وأعوانه لا تقوم في الغالب بحماية الرعايا الليبيين بل تسعى هذه الهيئة لتجريد الشعب من حقوقه الأساسية وحرمانه من ثرواته أو العبث بها وبمقدرات الشعب الليبي ، فانعدام رابطة ولاء الشعب للهيئة الحاكمة ونقص أو انعدام حماية الهيئة لرعاياها في رأي أغلبية فقهاء القانون الدستوري دليلا دامغاً على عدم شرعية تلك الهيئة الحاكمة التي يجب العمل على اجتثاثها والقضاء عليها . ولما كانت الأمة هي الأساس الطبيعي للبناء الذي ينبغي أن تقوم عليه الدولة إذا فإن الانفصال والتناقض بين الأمة والدولة معناه وجود انفصال بين سلطة الدولة والقوى الاجتماعية التي تجسد المطامح والآمال الجماعية وقد ينشأ عن ذلك صراع قوي تمهيداً للتكيف والتلاؤم أو العمل على استبدال الحاكم والسلطة الحاكمة لمنع حدوث أي تباعد أو تعارض بينهم وبين تلك القوى الاجتماعية الشعبية.
المراجع الاساسية
قلوش، مصطفى.المبادئ العامة للقانون الدستوري / مصطفى قلوش . - الرباط : شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع, 1995
قلوش، مصطفى.القانون الدستوري : النظرية العامة / مصطفى قلوش . - الرباط : مكتبة دار السلام, 2004
الفاسي الفهري، يوسف.القانون الدستوري : [الإشكالات النظرية ... المفاهيم الإجرائية] / يوسف الفاسي الفهري . - فاس : مطبعة أنفو برانت, 1997
الصروخ، مليكة.القانون الدستوري : المبادئ العامة للقانون الدستوري، القواعد الدستورية، القانون الدستوري المغربي / الدكتورة مليكة الصروخ . - الدار البيضاء : مطبعة النجاح الجديدة, 1998 .
مطيع، المختار.القانون الدستوري و أنظمة الحكم المعاصرة : المبادئ العامة للقانون الدستوري، المؤسسات الحاكمة في بريطانيا و الو.م.أ. و فرنسا، النظام السياسي الدستوري المغربي / المختار مطيع . - الدار البيضاء : مطبعة النجاح الجديدة, 1998 .
الغزال، إسماعيل.القانون الدستوري و النظم السياسية / إسماعيل الغزال . - بيروت : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع, 1987 .
هوريو، أندريه.القانون الدستوري والمؤسسات السياسية / أندريه هوريو ؛ نقله إلى العربية علي مقلد، شفيق حداد، عبد الحسن سعد . - بيروت : المؤسسة الأهلية للطباعة والنشر, 1974 .
دوفرجيه، موريس.المؤسسات السياسية و القانون الدستوري : الأنظمة السياسية الكبرى / موريس دوفرجيه ؛ ترجمة جورج سعد . - بيروت : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع, 1992 .
صاصيلا، محمد عرب.الموجز في القانون الدستوري / محمد عرب صاصيلا . - الدار البيضاء : مطبعة النجاح الجديدة, 1981 .
مالكي، امحمد.الوجيز في القانون الدستوري و المؤسسات السياسية : المفاهيم الأساسية، النظام السياسي المغربي / امحمد مالكي . - مراكش : المطبعة والوراقة الوطنية, 2001 .
أتركين، محمد.الهندسة الدستورية للقضاء المغربي ومعادلة استقلال القضاء / الدكتور محمد أتركين.في مجلة الحقوق المغربية : مجلة مغربية قانونية تصدر كل نصف سنة = Revue du droit marocain . - ع. 2-3 (2007)
معتصم، محمد.تأملات في حصيلة وآفاق 30 سنة من الممارسة الدستورية المغربية / محمد معتصم.في المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية = Revue marocaine de droit et d économie du développement . - ع. 30 (1993)
المنار اسليمي، عبد الرحيم.تجربة الغرفة الدستورية بالمغرب : قراءة سوسيوقضائية في الاجتهاد الدستوري السابق / عبد الرحيم المنار اسليمي.في المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية = Revue marocaine d administration locale et de développement . - ع. 56 (2004)
معتصم، محمد.ملخص ندوة 30 سنة من الحياة الدستورية بالمغرب : الحصيلة والآفاق / محمد معتصم.في مجلة القانون والاقتصاد = Revue de droit et d économie . - ع. 11 (1995) .
حامي الدين، عبد العلي.إشكالية الإصلاح السياسي والدستوري في المغرب / د. عبد العلي حامي الدين.في مسالك في الفكر والسياسة والاقتصاد .
المدني، محمد.الإصلاح الدستوري / محمد المدني.في وجهة نظر : مجلة تعنى بقضايا السياسة والفكر . - ع. 25-26 (2005).