الدولة
أولاً: تعريف الدولة وأركانها
الدولة l’etat هي شخص معنوي يمثل قانوناً مجموعة من الأفراد يقطنون أرضاً معينة، وبيده مقاليد السلطة العامة، ومن هذا التعريف يمكن القول إن هناك ثلاثة عناصر لابد من توافرها لوجود دولة ما، وهذه العناصر هي:
1- الشعب population: تذهب غالبية الفقه إلى أن الركن الأول لأي دولة هو وجود «جماعة من الناس» ولا يشترط أن يبلغ عدد هؤلاء الناس مبلغاً محدداً للقول بتوافر هذا الركن، حيث يبلغ عدد سكان الصين مثلاً ما يزيد على مليار نسمة، في حين توجد بعض الدول لا يتعدى عدد سكانها عشرات الآلاف كما هو الحال في دولة بالاو Palaw مثلاً.
ولكن من الواضح أن كثرة عدد السكان تعدّ عاملاً في ازدياد قوة الدولة ونمو إنتاجها وثروتها وبسط سلطاتها، ولكن ذلك ليس قاعدة مطلقة بل نسبية فالكثرة العددية لشعب من الشعوب لا تعني دائماً الرفعة والتفوق، فقد كانت هولندة تستعمر إندونيسية مع أن عدد سكان الأولى أقل من عشر سكان الأخرى، كما قد تؤدي ظروف الدولة إلى تبني سياسة وتنظيم النسل وتحديد التزايد السكاني، وقد حصل خلاف فلسفي حول طريقة وجود شعب الدولة، فطرحت فكرتان، محتوى الأولى أن الإنسان يعد كائناً اجتماعياً بالطبيعة، وأن الجماعات البشرية والشعوب تمثل ظواهر اجتماعية طبيعية تنشأ تلقائياً، وخارج إرادات الأفراد، أما محتوى الأخرى، أن المجتمعات البشرية ليست إلا ظواهر صناعية أرادها الإنسان، ووضعها على عينة لخدمة متطلبات حياته الحاضرة والمستقبلية، وأياً كان التفسير الفلسفي لحقيقة نشأة الشعوب والجماعات البشرية، فلا يزال السؤال المطروح، يلح في معرفة الأساس الذي جرى ويجري عليه حتى اليوم توزيع جماعات الأفراد والشعوب بين الدول المختلفة، ولعل استقراء التاريخ قد يجعل المرء يقرر أن هذا التوزيع يجري تارة بالغزو العسكري في صورة احتلال وضم، ويجري تارة بتأثير الموازنات الدبلوماسية بين مختلف القوى العالمية في شكل معاهدات أو تحالفات، ولكن نادراً ما يتم على أساس استفتاءات شعبية حرة، وعلى كل حال، فإن شعب الدولة لا يكون مجموعة منعزلة من الأفراد، بل هو في الحقيقة جماعات من الأفراد مرتبطين معاً جسدياً، ومعنوياً، اقتصادياً واجتماعياً، عقائدياً، وفكرياً، بمجموعة متشابكة من علاقات التضامن والتشابه والاحتكاك وتناول المنافع، وتقسيم العمل. ولا يصح، في ظل التقسيمات المعاصرة للدول، الخلط بين فكرتي الشعب والأمة، فالأمة حقيقة اجتماعية مفادها أن مجموعة من الأفراد تم انصهارهم واتحادهم تحت تأثير عوامل متعددة خلقت منهم جماعة لها بين الجماعات القومية ذاتها وتاريخها وأهدافها ورسالتها، ويجمع بين أفرادها في علاقاتهم المتبادلة واجبات متبادلة أيضاً بالمحبة وتبادل المعونة والتزامات لحماية الترابط القومي وتنميته، أما الشعب فلا يعدو أن يكون عنصر «السكان» في الدولة، وهو قد يكون أمة واحدة، حين تكون الأمة قد حققت استقلالها وكونت دولة قومية مستقلة وهو ما تجري عليه القاعدة، في بعض دول أوربة الغربية خصوصاً، ولكن الشعب قد يكون جزءاً من أمة موزعة بين أكثر من دولة، وصورتها الأمة العربية التي لا تزال تبحث عن طريق لتحقيق وحدتها السياسية واستقلالها في دولة قومية ذات سيادة كما قد يكون خليطاً من قوميات متعددة، وهذا ما كانت عليه الامبراطوريات القديمة كالامبراطورية الرومانية، أو ما كانت عليه الحال في الاتحاد السوڤييتي السابق.
2- الإقليم le territoire: وإذا كانت الدولة في تعريفها الصحيح تفترض وجود مجموعة من الأفراد يعيشون معاً عيشة دائمة ومستقرة، فإن هذا الاستقرار والدوام لن يتحقق دون توافر الإقليم، بوصفه رقعة الأرض التي اختارها الأجداد وارتضاها من بعدهم الأبناء والأحفاد في أجيالهم المتتابعة مستقراً ومقاماً، ويجمع رجال القانون الدولي العام على أن من المعالم الرئيسية للنظام الدولي الحاضر، انفراد كل دولة برقعة محددة من أرض المعمورة تعرف بإقليم الدولة ولها وحدها عليه حق السيادة، بحيث يخضع لسلطانها كل الأشخاص والأشياء الموجودة عليه، بعكس ما كان في الماضي من سيطرة لنظام شخصية القوانين، فالدولة المعاصرة إذن منظمة سياسية إقليمية، لذلك لم يعترف الفقه للكنيسة الكاثوليكية بصفة الدولة، على الرغم من الاعتراف لها بالشخصية القانونية، إلا بعد معاهدة لاتيران سنة 1929، حين تحدد لها نطاق إقليمي معلوم، أصبحت بمقتضاه مدينة الفاتيكان بحدودها المقررة دولة ذات سيادة، وقد ثبت أيضاً لدى فقه القانون الدولي أن زوال إقليم الدولة يؤدي بالنتيجة إلى انقضاء شخصيتها الدولية، ولكن زيادة الإقليم أو نقصانه لا يؤدي إلى النتيجة نفسها، وإن كانت التزامات الدولة تتأثر زيادة ونقصاناً جراء ذلك.
وليس من الضروري أن يكون إقليم الدولة منطقة أرض متصلة، فقد يتكون إقليم الدولة من عدد من الجزر، كما هو الحال في إندونيسية. ويفصل إقليم الدولة عن أقاليم الدول المجاورة حدود، ذات أهمية خاصة يحدد على أساسها امتداد سيادة الدولة، والأساس المعتمد في تعيين حدود الدول هو في الغالب المعاهدات والاتفاقات الدولية التي تبرم بين الدول المعنية صاحبة المصلحة، وقد تكون هذه الحدود طبيعية أنشأتها الطبيعة كالجبال والأنهار والبحار، وقد تكون الحدود غير طبيعية (صناعية)، وهي التي تلجأ إليها دول لا تفصلها حدود طبيعية، وتقام هذه الحدود عن طريق وضع علامات خاصة كالأعمدة والأبنية والأسلاك الشائكة أو جسم عائم فوق الماء وغير ذلك.
وفي داخل هذه الحدود يتكون إقليم الدولة من مساحة من الأرض معلومة بكل ما تحت سطحها من طبقات لا نهاية لعمقها، وما تشتمل عليه من ثروات طبيعية، وما يعلوها من مجالات حيوية إلى ارتفاع معين، بحيث يكون ما يعلوه جواً حراً لجميع الدول، وكذلك تدخل المياه الإقليمية[ر: البحار(قانون -)]، للدول المطلة على البحار في نطاق الإقليم، وللدولة إقليم مائي داخلي يتضمن جميع الأنهار والبحيرات الموجودة داخل حدودها. وللإقليم بمفهومه المتقدم أهمية كبرى فيما يتعلق بممارسة سلطة الدولة، فهو يحدد النطاق الإقليمي الذي يمكن للدولة أن تحدد شعبها على أساسه تحديداً مادياً واضحاً، ومن ثم تجسيد العلاقة الرعوية، بين الدولة وأفراد الشعب، كما يساعد على تحديد نطاق اختصاص الدولة، فكأنه قاعدة الأساس في استقلال الدولة، والمدخل إلى حقها في السيادة.
3- السلطة الحاكمة la puissance: يجب أن تقوم بين الشعب القاطن في الإقليم هيئة حاكمة ومنظمة لتشرف على الإقليم ومن يقطنونه، وتمارس هذه الهيئة سلطاتها باسم الدولة، ويتميز هذا الركن بأهمية خاصة لدرجة أن فكرة الدولة توحي أولاً وقبل كل شيء بفكرة السلطة العامة العاملة والمنظمة، ويجمع الفكر السياسي على أن وجود السلطة يتحقق حين ينقسم أفراد المجتمع إلى فئتين، فئة قوية تحكم أياً كانت مظاهر قوتها (اقتصادية، أو دينية، أو عسكرية، أو فكرية)، وفئة أخرى محكومة تخضع وتتطلع، وبهذا وحده تتحول الجماعة إلى مجتمع منظم، تسيطر عليه فكرة القانون الملزم، وتتحقق فيه فكرة الصالح العام، ويتم بها التصالح بين الغرائز الفردية والغرائز الاجتماعية في الإنسان، ويجمع فقه القانون الدستوري على أن السلطة السياسية ظاهرة اجتماعية لا مكان لها خارج النظام الجماعي، كما أنها ظاهرة نفسية تقوم على الرضا، فهي إن أخذت في الحياة الواقعية مظهر القوة المادية، فإنها قبل كل شيء، تعتمد في وجودها وفي شرعية تصرفاتها، على مدى ارتباطها بالضمير الجماعي وصدق تعبيرها عنه، ومن ثم، فهي تستقر في الأساس على رضا المحكومين بها وقبولهم لها، ولكن هذا لا يعني أن السلطة السياسية، كثيراً ما تعتمد في الدولة المعاصرة، على أساليب مختلفة، بعضها للضغط، وبعضها للإقناع، حتى تحمل الأفراد الخاضعين لها، على الرضا بها وتقبلها، وإضافة إلى ذلك فإن السلطة السياسية ظاهرة قانونية، إذ إن الصالح الجماعي المشترك الذي تتجمع حوله الحياة الجماعية ويحدد أهداف الأفراد وآمالهم المستقبلية لا يتحقق تلقائياً، فهو يتطلب من الأفراد أن يسلكوا فيما بينهم أنماطاً معينة من السلوك لا تهدد الصالح العام، وهو الأمر الذي يوجب أن يتوافر في المجتمع السياسي نظام سلوكي محدد يحيط بالأنشطة الفردية ويوجهها، وليست قواعد هذا النظام السلوكي في النهاية غير القانون، بيد أن هذا القانون الذي ينشأ مع نشأة المجتمع الإنساني، لا بد له من قوة عاملة تقوم على وضعه موضع التنفيذ، عن طريق وضع قواعد سلوك محددة ومعلنة رسمياً للناس، وتسهر على تنفيذها وحمايتها ضد كل محاولة للخروج عليها من جانب الأفراد.
وقد ثار نقاش شديد حول القيمة التي يحملها الاعتراف بالدولة من جانب الدول الأخرى في المجتمع الدولي، ومدى تأثيره على الوجود القانوني للدولة، إذ انقسم الفقه في هذا المجال إلى اتجاهين، الأول: من أنصار النظرية المنشئة، وخلاصتها أن اجتماع العناصر الدولية الثلاثة (الشعب والإقليم والسلطة)، لا يكفي وحده لاكتساب الدولة الشخصية القانونية، ولا لدخولها بالتالي في المجتمع الدولي، بل يلزم الاعتراف بها كشرط إضافي من جانب الدول الأخرى، أما الاتجاه الآخر، فهو من أنصار النظرية المقررة، وخلاصتها أن الدولة توجد تلقائياً بمجرد اكتمال العناصر المادية الثلاثة المعززة لوجودها، وأنها على هذا الأساس، تدخل المجتمع الدولي بوصفها شخصاً قانونياً مسلماً به نشأ تلقائياً وذاتياً، ومع ذلك، فإنه لا يزال للاعتراف أهميته، لا بوصفه منشئاً للدولة، بل بوصفه الطريق الطبيعي لإيجاد علاقات تعاون عادية ومستمرة بين الدول والاعتراف بالدولة الجديدة قد يكون مشروطاً أو خالياً من الشروط، والشروط قد تكون صريحة، وقد تكون في تحفظات، وإذا كان الاعتراف غير المشروط هو الأصل، فقد يحدث أن تشترط الدولة المعترفة على الدولة الجديدة شروطاً معينة يلزمها احترامها حين تمارس سيادتها في المجال الداخلي، أو حين تتعامل مع الدول الأخرى، أو المنظمات الدولية، في مجالات السياسة الخارجية.
ثانياً: التقسيمات القانونية للدول
تذهب أغلبية فقه القانون الدولي العام، وكذلك أغلبية فقه القانون الدستوري، إلى أن الدول صاحبة السيادة الكاملة تنقسم إلى دول بسيطة simples أو موحدة ودول مركبة أو اتحادية mixtes، والدولة البسيطة، والموحدة هي الدولة في أبسط صورها، حيث تبدو كتلة واحدة وسيادتها موحدة ومستقرة في يد حكومة مركزية واحدة، دون مشاركة أو توزيع فهي تمتاز بوحدتها السياسية، أو بوحدتها الدستورية، ووحدتها في التشريع، حتى ولو لم تتحقق وحدتها الإدارية، أما الدولة الاتحادية أو المركبة، فإنها توجد فيها كتلة دستورية واحدة، إنما تتعدد فيها الدساتير، كما تتعدد سلطات الحكم على مستوى كل دويلة من الدويلات الداخلة في الاتحاد، ولعل أشهر أنواع الدول الاتحادية إنما يتمثل في الاتحاد المركزي أو الفيدرالي le federalisme والذي يتكون من مجموعة ولايات أو دويلات تضمها دولة اتحادية تكون لها كقاعدة عامة، كل مظاهر السيادة الخارجية، أما السيادة الداخلية فتوزع بين دولة الاتحاد والدويلات الأعضاء، وأمثلة هذا النوع من الدول كثيرة منها الولايات المتحدة، وسويسرا، ودولة الإمارات العربية المتحدة.
ثالثاً: التشخيص القانوني للدولة
نظر الفقه إلى الدولة على الدوام على أساس تمتعها بالشخصية القانونية، بحيث تظهر كوحدة قانونية مستقلة عن الأفراد المكونين لها، على أن يكون معلوماً أن الدولة، ككل الأشخاص المعنوية العامة والخاصة، لا تتمتع بالوجود المادي الذي يتمتع به الشخص الطبيعي (الإنسان العادي)، وهو ما يجعلها غير قادرة على أن تمارس بنفسها مظاهر وجودها القانوني، وإنما يتكفل قانون الدولة الأساسي (الدستور)، بتحديد الأشخاص الآدميين (الحكام)، الذين يملكون قدرة التعبير عن إرادة الدولة وتمثيلها في كل ما تقتضيه مصالحها من علاقات وروابط، لذلك يصح القول إنه لا يُحس بالدولة ولا تُرى في واقع الحياة اليومية إلا من الحكام فهؤلاء هم الذين يحوزون سلطة الدولة ويتولون نيابة عنها حق الأمر والنهي في الجماعة، ويعد الفقه الألماني، هو المصدر التاريخي لهذا التكييف القانوني[ر] المستقر اليوم، والذي امتد خارج ألمانيا، حتى صادف قبولاً لدى أغلب فقه القانون العام المعاصر، ولاسيما في فرنسا، إلا أنه يفصل بين الفقه الألماني والفقه الفرنسي خلاف عميق في فكرة تشخيص الدولة، ذلك أن جماعة الفقه الألماني تنظر إلى الدولة نظرة مجردة عن الأمة وتراها كائناً قانونياً مستقلاً وشخصاً عاماً يملك وحده حق السيادة، أما جماعة الفقه الفرنسي فتخلط بين الدولة والأمة، ولا ترى الدولة شيئاً غير الأمة منظوراً إليها نظرة قانونية، وإنها بهذه الصورة تعتبر التشخيص القانوني للشعب، وتكون سيادتها وسلطتها العامة، المظهر القانوني للسيادة الشعبية، كما أن الفقه الفرنسي ذاته قد انقسم في مجال مناقشة هذه الشخصية، فقد ذهب فريق إلى الاعتراف بشخصية الدولة المعنوية في مجال القانون الخاص والحقوق المالية فقط، أما في مجال القانون العام، وما يتصل به من الاعتراف للدولة بامتيازات السلطة العامة، فلا مكان لفكرة الشخصية المعنوية ولا لفكرة الحقوق إطلاقاً لأن، كل ما تتمتع به الدولة في هذا المجال لا يعدو أن يكون مجرد اختصاصات أو وظائف يمارسها عمال الدولة، وموظفوها لتحقيق الصالح العام في إطار القانون، وعلى مقتضاه. في حين ذهب فريق آخر من الشراح إلى تأكيد ازدواج شخصية الدولة القانونية، بمعنى أن للدولة شخصيتين قانونيتين متميزتين، فهي في مجال القانون الخاص والحقوق المالية شخص من أشخاص القانون الخاص ولكنها في مجال حق السيادة وامتيازات السلطات العامة شخص من أشخاص القانون العام بفروعه المختلفة، والرأي الراجح في فقه القانون العام المعاصر، يجمع على أن الدولة ليست إلا شخصاً قانونياً معنوياً واحداً، يتصرف في إطار أكثر من نظام قانوني وتتمتع في مجال كل نظام منها بحقوق وامتيازات تتفق مع طبيعته وأهدافه، وتأسيساً على ذلك فإن الدولة حين تتصرف في مجال علاقاتها مع الدول الأخرى، تكون شخصاً من أشخاص القانون الدولي العام، ولكنها حين تتصرف داخل إقليمها، ومع رعاياها، فإنها تظهر بصفتها من أشخاص القانون الوطني، على أن تحكمها في هذا المجال قواعد القانون العام تارة، وقواعد القانون الخاص تارةً أخرى، وذلك في ضوء طبيعة العلاقات التي تكون طرفاً فيها، طبقاً للمعيار المستقر للتمييز بين موضوعات كل من القانونين، مع الإشارة إلى أنه وجد رأي فقهي مرجوح في فرنسة كان ينكر إطلاقاً الشخصية القانونية للدولة، وأبرز من مثل هذا الاتجاه العميد دوجي Duguit الذي برّر رفضه للشخصية القانونية للدولة على أساس أن الدولة ليست إلا ظاهرة اجتماعية طبيعية تنشأ تلقائياً حين يحدث ما سماه الاختلاف السياسي diferenciation politique بين أفراد المجتمع، بحيث تظهر فيهم فئة حاكمة يتعلق بها أمر السلطة العامة، وفئة محكومة يقع عليها واجب الطاعة والخضوع، وذلك بغض النظر عن الوسيلة التي يعتمد عليها الحكام في فرض أوامرهم، أي سواء أكان بالإقناع أم بالقوة. وعلى كل حال، تترتب على الاعتراف بالشخصية القانونية للدولة، عدة نتائج هي غاية في الأهمية:
1- الأهلية القانونية: يؤدي القول إن الدولة تعتبر كائناً قانونياً قائماً بذاته ومستقلاً عن الحكام والمحكومين، في وقت واحد إلى ضرورة التسليم لها بقدرات مستقلة كذلك، تمكنها من إتيان التصرفات القانونية المختلفة، وهو ما يعرف بالأهلية القانونية، إلا أن أهلية الدولة القانونية وإن كانت تسمح لها أن تمارس كل أنواع التصرفات القانونية، كالاتفاقات والعقود وتصرفات الإرادة المنفردة إلا أن ما تتمتع به الدولة من سلطة عامة مرصودة لخدمة الجماعة قد اقتضى لها في القانون الوضعي المعاصر، كثيراً من الامتيازات الاستثنائية التي لا تعرفها غيرها من الأشخاص القانونية.
2- ذمة الدولة المالية وحقوقها: وتأسيساً على ما تقدم، ثبت لدى فقه القانون العام، أنه لا بد لكل الأشخاص المعنوية والدولة أحد هذه الأشخاص من ذمة مالية خاصة ومستقلة عن الذمة المالية للأعضاء المكونين له، ولممثليه الذين يتصرفون باسمه، ومن ثم فإن الحقوق والالتزامات التي ترتبها تصرفات حكام الدولة باسمها ولحسابها، لا تعود إلى ذمة هؤلاء الحكّام المالية ولكنها تكون حقوقاً والتزامات لحساب الدولة ذاتها.
3- وحدة الدولة: والدولة باعتبارها شخصاً قانونياً، مستقلاً ومتميزاً عن أشخاص الحكام والمحكومين على السواء، تمثل وحدة قانونية واحدة ودائمة، أما أن الدولة تمثل وحدة قانونية، فهذا يعني أن تعدد سلطاتها العامة من تشريعية وتنفيذية وقضائية وكذلك فإن تعدد ممثلي الدولة، وتعدد الأجهزة والأشخاص التي تعبر عن إرادتها وتعمل باسمها، لا يغير من وصفها كشخص قانوني واحد، وتفريعاً على ذلك فإنه يلزم في الدولة مهما كان مدى الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات، أن ترتبط السلطات العامة والتشريعية والتنفيذية والقضائية فيما بينها بنوع من التدرج الهرمي يسمح بالتعاون فيما بينها. وأما أن الدولة تمثل وحدة قانونية دائمة، فهذا يعني أن وجود الدولة كشخص قانوني واستمرارها، لا تتأثر بتغيير الأشخاص الممثلين لها أو بتغيير نظام الحكم فيها، ويبرر استمرار الدولة ودائميتها، اعتبارها شخصاً قانونياً مستقلاً ومتميزاً في وجوده وحياته عن وجود الأفراد المكونين له، أو الممثلين له، وأنها تستهدف أغراضاً تتجاوز عمر جيل بذاته من أجيال شعبها، وهذه الأغراض تبقى على الرغم من زوال الأفراد وتغير الحكام، وتطور الشكل الدستوري، مما يجعلها حقيقة باقية مستمرة ودائمة.
رابعاً: خضوع الدولة للقانون
لم تعد الدولة المعاصرة، تلك الدولة الاستبدادية التي يختلط فيها القانون بإرادة الحاكم ومشيئته، وإنما هي أساساً دولة يسودها مبدأ سيادة القانون والشرعية، ومقتضى هذا المبدأ أن أعمال السلطات العامة في الدولة وقراراتها النهائية، على أي مستوى كانت من التدرج لا تكون صحيحة ولا منتجة لآثارها القانونية المقررة، في مواجهة المخاطبين لها، إلا بمقدار مطابقتها للقاعدة القانونية الأعلى التي تحكمها، وكذلك فإن إجراءات السلطات العامة، وأعمالها، وتصرفاتها كافة، لا تكون صحيحة، ولا منتجة لآثارها القانونية المقررة إلا بمقدار التزامها بما يقضي به القانون، فإن صدرت هذه أو تلك على غير مقتضى القانون الواجب التطبيق، فإنها تكون غير مشروعة، ويكون لذوي الشأن حق طلب إلغائها والتعويض عنها أمام المحاكم المختصة، ومن هنا كان استقلال القضاء ودعم هذا الاستقلال، من ألزم الضمانات لإقرار مبدأ سيادة القانون وتوكيده، وفي الحقيقة، فإن نقطة البدء في فهم الدولة القانونية وتصورها، تتمثل في قدرة التمييز بين فكرة السلطة السياسية pouvoir politique، والحكام governamts، فإذا كنا لا نحس بالسلطة في واقع حياتنا العملية إلا من خلال الحكام، وما يملكونه في مواجهتنا من قدرة الأمر والنهي، إلا أن هؤلاء الحكام لا يمارسون السلطة، بوصفها امتيازاً أو حقاً لهم، بل يظهرون في موقع السلطة من خلال وظائفهم، واختصاصاتهم المحددة لهم سلفاً في القانون، ويمثل الدستور قاعدة الأساس في هذا المجال، لأنه حين يحدد الاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العامة التي تعيش في ظلها أوجه النشاط الفردي والحكومي على السواء، وحين يعين الأشخاص والهيئات العامة التي يكون لها حق التصرف باسم الدولة في نطاق من هذه الاتجاهات العامة، فإنه يحدد طاعته فكرة القانون واجبة الاتباع التي يجب أن يلتزم بها الحكام إذا أرادوا لتصرفاتهم أن تكون مشروعة ونافذة.
مهند نوح
أولاً: تعريف الدولة وأركانها
الدولة l’etat هي شخص معنوي يمثل قانوناً مجموعة من الأفراد يقطنون أرضاً معينة، وبيده مقاليد السلطة العامة، ومن هذا التعريف يمكن القول إن هناك ثلاثة عناصر لابد من توافرها لوجود دولة ما، وهذه العناصر هي:
1- الشعب population: تذهب غالبية الفقه إلى أن الركن الأول لأي دولة هو وجود «جماعة من الناس» ولا يشترط أن يبلغ عدد هؤلاء الناس مبلغاً محدداً للقول بتوافر هذا الركن، حيث يبلغ عدد سكان الصين مثلاً ما يزيد على مليار نسمة، في حين توجد بعض الدول لا يتعدى عدد سكانها عشرات الآلاف كما هو الحال في دولة بالاو Palaw مثلاً.
ولكن من الواضح أن كثرة عدد السكان تعدّ عاملاً في ازدياد قوة الدولة ونمو إنتاجها وثروتها وبسط سلطاتها، ولكن ذلك ليس قاعدة مطلقة بل نسبية فالكثرة العددية لشعب من الشعوب لا تعني دائماً الرفعة والتفوق، فقد كانت هولندة تستعمر إندونيسية مع أن عدد سكان الأولى أقل من عشر سكان الأخرى، كما قد تؤدي ظروف الدولة إلى تبني سياسة وتنظيم النسل وتحديد التزايد السكاني، وقد حصل خلاف فلسفي حول طريقة وجود شعب الدولة، فطرحت فكرتان، محتوى الأولى أن الإنسان يعد كائناً اجتماعياً بالطبيعة، وأن الجماعات البشرية والشعوب تمثل ظواهر اجتماعية طبيعية تنشأ تلقائياً، وخارج إرادات الأفراد، أما محتوى الأخرى، أن المجتمعات البشرية ليست إلا ظواهر صناعية أرادها الإنسان، ووضعها على عينة لخدمة متطلبات حياته الحاضرة والمستقبلية، وأياً كان التفسير الفلسفي لحقيقة نشأة الشعوب والجماعات البشرية، فلا يزال السؤال المطروح، يلح في معرفة الأساس الذي جرى ويجري عليه حتى اليوم توزيع جماعات الأفراد والشعوب بين الدول المختلفة، ولعل استقراء التاريخ قد يجعل المرء يقرر أن هذا التوزيع يجري تارة بالغزو العسكري في صورة احتلال وضم، ويجري تارة بتأثير الموازنات الدبلوماسية بين مختلف القوى العالمية في شكل معاهدات أو تحالفات، ولكن نادراً ما يتم على أساس استفتاءات شعبية حرة، وعلى كل حال، فإن شعب الدولة لا يكون مجموعة منعزلة من الأفراد، بل هو في الحقيقة جماعات من الأفراد مرتبطين معاً جسدياً، ومعنوياً، اقتصادياً واجتماعياً، عقائدياً، وفكرياً، بمجموعة متشابكة من علاقات التضامن والتشابه والاحتكاك وتناول المنافع، وتقسيم العمل. ولا يصح، في ظل التقسيمات المعاصرة للدول، الخلط بين فكرتي الشعب والأمة، فالأمة حقيقة اجتماعية مفادها أن مجموعة من الأفراد تم انصهارهم واتحادهم تحت تأثير عوامل متعددة خلقت منهم جماعة لها بين الجماعات القومية ذاتها وتاريخها وأهدافها ورسالتها، ويجمع بين أفرادها في علاقاتهم المتبادلة واجبات متبادلة أيضاً بالمحبة وتبادل المعونة والتزامات لحماية الترابط القومي وتنميته، أما الشعب فلا يعدو أن يكون عنصر «السكان» في الدولة، وهو قد يكون أمة واحدة، حين تكون الأمة قد حققت استقلالها وكونت دولة قومية مستقلة وهو ما تجري عليه القاعدة، في بعض دول أوربة الغربية خصوصاً، ولكن الشعب قد يكون جزءاً من أمة موزعة بين أكثر من دولة، وصورتها الأمة العربية التي لا تزال تبحث عن طريق لتحقيق وحدتها السياسية واستقلالها في دولة قومية ذات سيادة كما قد يكون خليطاً من قوميات متعددة، وهذا ما كانت عليه الامبراطوريات القديمة كالامبراطورية الرومانية، أو ما كانت عليه الحال في الاتحاد السوڤييتي السابق.
2- الإقليم le territoire: وإذا كانت الدولة في تعريفها الصحيح تفترض وجود مجموعة من الأفراد يعيشون معاً عيشة دائمة ومستقرة، فإن هذا الاستقرار والدوام لن يتحقق دون توافر الإقليم، بوصفه رقعة الأرض التي اختارها الأجداد وارتضاها من بعدهم الأبناء والأحفاد في أجيالهم المتتابعة مستقراً ومقاماً، ويجمع رجال القانون الدولي العام على أن من المعالم الرئيسية للنظام الدولي الحاضر، انفراد كل دولة برقعة محددة من أرض المعمورة تعرف بإقليم الدولة ولها وحدها عليه حق السيادة، بحيث يخضع لسلطانها كل الأشخاص والأشياء الموجودة عليه، بعكس ما كان في الماضي من سيطرة لنظام شخصية القوانين، فالدولة المعاصرة إذن منظمة سياسية إقليمية، لذلك لم يعترف الفقه للكنيسة الكاثوليكية بصفة الدولة، على الرغم من الاعتراف لها بالشخصية القانونية، إلا بعد معاهدة لاتيران سنة 1929، حين تحدد لها نطاق إقليمي معلوم، أصبحت بمقتضاه مدينة الفاتيكان بحدودها المقررة دولة ذات سيادة، وقد ثبت أيضاً لدى فقه القانون الدولي أن زوال إقليم الدولة يؤدي بالنتيجة إلى انقضاء شخصيتها الدولية، ولكن زيادة الإقليم أو نقصانه لا يؤدي إلى النتيجة نفسها، وإن كانت التزامات الدولة تتأثر زيادة ونقصاناً جراء ذلك.
وليس من الضروري أن يكون إقليم الدولة منطقة أرض متصلة، فقد يتكون إقليم الدولة من عدد من الجزر، كما هو الحال في إندونيسية. ويفصل إقليم الدولة عن أقاليم الدول المجاورة حدود، ذات أهمية خاصة يحدد على أساسها امتداد سيادة الدولة، والأساس المعتمد في تعيين حدود الدول هو في الغالب المعاهدات والاتفاقات الدولية التي تبرم بين الدول المعنية صاحبة المصلحة، وقد تكون هذه الحدود طبيعية أنشأتها الطبيعة كالجبال والأنهار والبحار، وقد تكون الحدود غير طبيعية (صناعية)، وهي التي تلجأ إليها دول لا تفصلها حدود طبيعية، وتقام هذه الحدود عن طريق وضع علامات خاصة كالأعمدة والأبنية والأسلاك الشائكة أو جسم عائم فوق الماء وغير ذلك.
وفي داخل هذه الحدود يتكون إقليم الدولة من مساحة من الأرض معلومة بكل ما تحت سطحها من طبقات لا نهاية لعمقها، وما تشتمل عليه من ثروات طبيعية، وما يعلوها من مجالات حيوية إلى ارتفاع معين، بحيث يكون ما يعلوه جواً حراً لجميع الدول، وكذلك تدخل المياه الإقليمية[ر: البحار(قانون -)]، للدول المطلة على البحار في نطاق الإقليم، وللدولة إقليم مائي داخلي يتضمن جميع الأنهار والبحيرات الموجودة داخل حدودها. وللإقليم بمفهومه المتقدم أهمية كبرى فيما يتعلق بممارسة سلطة الدولة، فهو يحدد النطاق الإقليمي الذي يمكن للدولة أن تحدد شعبها على أساسه تحديداً مادياً واضحاً، ومن ثم تجسيد العلاقة الرعوية، بين الدولة وأفراد الشعب، كما يساعد على تحديد نطاق اختصاص الدولة، فكأنه قاعدة الأساس في استقلال الدولة، والمدخل إلى حقها في السيادة.
3- السلطة الحاكمة la puissance: يجب أن تقوم بين الشعب القاطن في الإقليم هيئة حاكمة ومنظمة لتشرف على الإقليم ومن يقطنونه، وتمارس هذه الهيئة سلطاتها باسم الدولة، ويتميز هذا الركن بأهمية خاصة لدرجة أن فكرة الدولة توحي أولاً وقبل كل شيء بفكرة السلطة العامة العاملة والمنظمة، ويجمع الفكر السياسي على أن وجود السلطة يتحقق حين ينقسم أفراد المجتمع إلى فئتين، فئة قوية تحكم أياً كانت مظاهر قوتها (اقتصادية، أو دينية، أو عسكرية، أو فكرية)، وفئة أخرى محكومة تخضع وتتطلع، وبهذا وحده تتحول الجماعة إلى مجتمع منظم، تسيطر عليه فكرة القانون الملزم، وتتحقق فيه فكرة الصالح العام، ويتم بها التصالح بين الغرائز الفردية والغرائز الاجتماعية في الإنسان، ويجمع فقه القانون الدستوري على أن السلطة السياسية ظاهرة اجتماعية لا مكان لها خارج النظام الجماعي، كما أنها ظاهرة نفسية تقوم على الرضا، فهي إن أخذت في الحياة الواقعية مظهر القوة المادية، فإنها قبل كل شيء، تعتمد في وجودها وفي شرعية تصرفاتها، على مدى ارتباطها بالضمير الجماعي وصدق تعبيرها عنه، ومن ثم، فهي تستقر في الأساس على رضا المحكومين بها وقبولهم لها، ولكن هذا لا يعني أن السلطة السياسية، كثيراً ما تعتمد في الدولة المعاصرة، على أساليب مختلفة، بعضها للضغط، وبعضها للإقناع، حتى تحمل الأفراد الخاضعين لها، على الرضا بها وتقبلها، وإضافة إلى ذلك فإن السلطة السياسية ظاهرة قانونية، إذ إن الصالح الجماعي المشترك الذي تتجمع حوله الحياة الجماعية ويحدد أهداف الأفراد وآمالهم المستقبلية لا يتحقق تلقائياً، فهو يتطلب من الأفراد أن يسلكوا فيما بينهم أنماطاً معينة من السلوك لا تهدد الصالح العام، وهو الأمر الذي يوجب أن يتوافر في المجتمع السياسي نظام سلوكي محدد يحيط بالأنشطة الفردية ويوجهها، وليست قواعد هذا النظام السلوكي في النهاية غير القانون، بيد أن هذا القانون الذي ينشأ مع نشأة المجتمع الإنساني، لا بد له من قوة عاملة تقوم على وضعه موضع التنفيذ، عن طريق وضع قواعد سلوك محددة ومعلنة رسمياً للناس، وتسهر على تنفيذها وحمايتها ضد كل محاولة للخروج عليها من جانب الأفراد.
وقد ثار نقاش شديد حول القيمة التي يحملها الاعتراف بالدولة من جانب الدول الأخرى في المجتمع الدولي، ومدى تأثيره على الوجود القانوني للدولة، إذ انقسم الفقه في هذا المجال إلى اتجاهين، الأول: من أنصار النظرية المنشئة، وخلاصتها أن اجتماع العناصر الدولية الثلاثة (الشعب والإقليم والسلطة)، لا يكفي وحده لاكتساب الدولة الشخصية القانونية، ولا لدخولها بالتالي في المجتمع الدولي، بل يلزم الاعتراف بها كشرط إضافي من جانب الدول الأخرى، أما الاتجاه الآخر، فهو من أنصار النظرية المقررة، وخلاصتها أن الدولة توجد تلقائياً بمجرد اكتمال العناصر المادية الثلاثة المعززة لوجودها، وأنها على هذا الأساس، تدخل المجتمع الدولي بوصفها شخصاً قانونياً مسلماً به نشأ تلقائياً وذاتياً، ومع ذلك، فإنه لا يزال للاعتراف أهميته، لا بوصفه منشئاً للدولة، بل بوصفه الطريق الطبيعي لإيجاد علاقات تعاون عادية ومستمرة بين الدول والاعتراف بالدولة الجديدة قد يكون مشروطاً أو خالياً من الشروط، والشروط قد تكون صريحة، وقد تكون في تحفظات، وإذا كان الاعتراف غير المشروط هو الأصل، فقد يحدث أن تشترط الدولة المعترفة على الدولة الجديدة شروطاً معينة يلزمها احترامها حين تمارس سيادتها في المجال الداخلي، أو حين تتعامل مع الدول الأخرى، أو المنظمات الدولية، في مجالات السياسة الخارجية.
ثانياً: التقسيمات القانونية للدول
تذهب أغلبية فقه القانون الدولي العام، وكذلك أغلبية فقه القانون الدستوري، إلى أن الدول صاحبة السيادة الكاملة تنقسم إلى دول بسيطة simples أو موحدة ودول مركبة أو اتحادية mixtes، والدولة البسيطة، والموحدة هي الدولة في أبسط صورها، حيث تبدو كتلة واحدة وسيادتها موحدة ومستقرة في يد حكومة مركزية واحدة، دون مشاركة أو توزيع فهي تمتاز بوحدتها السياسية، أو بوحدتها الدستورية، ووحدتها في التشريع، حتى ولو لم تتحقق وحدتها الإدارية، أما الدولة الاتحادية أو المركبة، فإنها توجد فيها كتلة دستورية واحدة، إنما تتعدد فيها الدساتير، كما تتعدد سلطات الحكم على مستوى كل دويلة من الدويلات الداخلة في الاتحاد، ولعل أشهر أنواع الدول الاتحادية إنما يتمثل في الاتحاد المركزي أو الفيدرالي le federalisme والذي يتكون من مجموعة ولايات أو دويلات تضمها دولة اتحادية تكون لها كقاعدة عامة، كل مظاهر السيادة الخارجية، أما السيادة الداخلية فتوزع بين دولة الاتحاد والدويلات الأعضاء، وأمثلة هذا النوع من الدول كثيرة منها الولايات المتحدة، وسويسرا، ودولة الإمارات العربية المتحدة.
ثالثاً: التشخيص القانوني للدولة
نظر الفقه إلى الدولة على الدوام على أساس تمتعها بالشخصية القانونية، بحيث تظهر كوحدة قانونية مستقلة عن الأفراد المكونين لها، على أن يكون معلوماً أن الدولة، ككل الأشخاص المعنوية العامة والخاصة، لا تتمتع بالوجود المادي الذي يتمتع به الشخص الطبيعي (الإنسان العادي)، وهو ما يجعلها غير قادرة على أن تمارس بنفسها مظاهر وجودها القانوني، وإنما يتكفل قانون الدولة الأساسي (الدستور)، بتحديد الأشخاص الآدميين (الحكام)، الذين يملكون قدرة التعبير عن إرادة الدولة وتمثيلها في كل ما تقتضيه مصالحها من علاقات وروابط، لذلك يصح القول إنه لا يُحس بالدولة ولا تُرى في واقع الحياة اليومية إلا من الحكام فهؤلاء هم الذين يحوزون سلطة الدولة ويتولون نيابة عنها حق الأمر والنهي في الجماعة، ويعد الفقه الألماني، هو المصدر التاريخي لهذا التكييف القانوني[ر] المستقر اليوم، والذي امتد خارج ألمانيا، حتى صادف قبولاً لدى أغلب فقه القانون العام المعاصر، ولاسيما في فرنسا، إلا أنه يفصل بين الفقه الألماني والفقه الفرنسي خلاف عميق في فكرة تشخيص الدولة، ذلك أن جماعة الفقه الألماني تنظر إلى الدولة نظرة مجردة عن الأمة وتراها كائناً قانونياً مستقلاً وشخصاً عاماً يملك وحده حق السيادة، أما جماعة الفقه الفرنسي فتخلط بين الدولة والأمة، ولا ترى الدولة شيئاً غير الأمة منظوراً إليها نظرة قانونية، وإنها بهذه الصورة تعتبر التشخيص القانوني للشعب، وتكون سيادتها وسلطتها العامة، المظهر القانوني للسيادة الشعبية، كما أن الفقه الفرنسي ذاته قد انقسم في مجال مناقشة هذه الشخصية، فقد ذهب فريق إلى الاعتراف بشخصية الدولة المعنوية في مجال القانون الخاص والحقوق المالية فقط، أما في مجال القانون العام، وما يتصل به من الاعتراف للدولة بامتيازات السلطة العامة، فلا مكان لفكرة الشخصية المعنوية ولا لفكرة الحقوق إطلاقاً لأن، كل ما تتمتع به الدولة في هذا المجال لا يعدو أن يكون مجرد اختصاصات أو وظائف يمارسها عمال الدولة، وموظفوها لتحقيق الصالح العام في إطار القانون، وعلى مقتضاه. في حين ذهب فريق آخر من الشراح إلى تأكيد ازدواج شخصية الدولة القانونية، بمعنى أن للدولة شخصيتين قانونيتين متميزتين، فهي في مجال القانون الخاص والحقوق المالية شخص من أشخاص القانون الخاص ولكنها في مجال حق السيادة وامتيازات السلطات العامة شخص من أشخاص القانون العام بفروعه المختلفة، والرأي الراجح في فقه القانون العام المعاصر، يجمع على أن الدولة ليست إلا شخصاً قانونياً معنوياً واحداً، يتصرف في إطار أكثر من نظام قانوني وتتمتع في مجال كل نظام منها بحقوق وامتيازات تتفق مع طبيعته وأهدافه، وتأسيساً على ذلك فإن الدولة حين تتصرف في مجال علاقاتها مع الدول الأخرى، تكون شخصاً من أشخاص القانون الدولي العام، ولكنها حين تتصرف داخل إقليمها، ومع رعاياها، فإنها تظهر بصفتها من أشخاص القانون الوطني، على أن تحكمها في هذا المجال قواعد القانون العام تارة، وقواعد القانون الخاص تارةً أخرى، وذلك في ضوء طبيعة العلاقات التي تكون طرفاً فيها، طبقاً للمعيار المستقر للتمييز بين موضوعات كل من القانونين، مع الإشارة إلى أنه وجد رأي فقهي مرجوح في فرنسة كان ينكر إطلاقاً الشخصية القانونية للدولة، وأبرز من مثل هذا الاتجاه العميد دوجي Duguit الذي برّر رفضه للشخصية القانونية للدولة على أساس أن الدولة ليست إلا ظاهرة اجتماعية طبيعية تنشأ تلقائياً حين يحدث ما سماه الاختلاف السياسي diferenciation politique بين أفراد المجتمع، بحيث تظهر فيهم فئة حاكمة يتعلق بها أمر السلطة العامة، وفئة محكومة يقع عليها واجب الطاعة والخضوع، وذلك بغض النظر عن الوسيلة التي يعتمد عليها الحكام في فرض أوامرهم، أي سواء أكان بالإقناع أم بالقوة. وعلى كل حال، تترتب على الاعتراف بالشخصية القانونية للدولة، عدة نتائج هي غاية في الأهمية:
1- الأهلية القانونية: يؤدي القول إن الدولة تعتبر كائناً قانونياً قائماً بذاته ومستقلاً عن الحكام والمحكومين، في وقت واحد إلى ضرورة التسليم لها بقدرات مستقلة كذلك، تمكنها من إتيان التصرفات القانونية المختلفة، وهو ما يعرف بالأهلية القانونية، إلا أن أهلية الدولة القانونية وإن كانت تسمح لها أن تمارس كل أنواع التصرفات القانونية، كالاتفاقات والعقود وتصرفات الإرادة المنفردة إلا أن ما تتمتع به الدولة من سلطة عامة مرصودة لخدمة الجماعة قد اقتضى لها في القانون الوضعي المعاصر، كثيراً من الامتيازات الاستثنائية التي لا تعرفها غيرها من الأشخاص القانونية.
2- ذمة الدولة المالية وحقوقها: وتأسيساً على ما تقدم، ثبت لدى فقه القانون العام، أنه لا بد لكل الأشخاص المعنوية والدولة أحد هذه الأشخاص من ذمة مالية خاصة ومستقلة عن الذمة المالية للأعضاء المكونين له، ولممثليه الذين يتصرفون باسمه، ومن ثم فإن الحقوق والالتزامات التي ترتبها تصرفات حكام الدولة باسمها ولحسابها، لا تعود إلى ذمة هؤلاء الحكّام المالية ولكنها تكون حقوقاً والتزامات لحساب الدولة ذاتها.
3- وحدة الدولة: والدولة باعتبارها شخصاً قانونياً، مستقلاً ومتميزاً عن أشخاص الحكام والمحكومين على السواء، تمثل وحدة قانونية واحدة ودائمة، أما أن الدولة تمثل وحدة قانونية، فهذا يعني أن تعدد سلطاتها العامة من تشريعية وتنفيذية وقضائية وكذلك فإن تعدد ممثلي الدولة، وتعدد الأجهزة والأشخاص التي تعبر عن إرادتها وتعمل باسمها، لا يغير من وصفها كشخص قانوني واحد، وتفريعاً على ذلك فإنه يلزم في الدولة مهما كان مدى الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات، أن ترتبط السلطات العامة والتشريعية والتنفيذية والقضائية فيما بينها بنوع من التدرج الهرمي يسمح بالتعاون فيما بينها. وأما أن الدولة تمثل وحدة قانونية دائمة، فهذا يعني أن وجود الدولة كشخص قانوني واستمرارها، لا تتأثر بتغيير الأشخاص الممثلين لها أو بتغيير نظام الحكم فيها، ويبرر استمرار الدولة ودائميتها، اعتبارها شخصاً قانونياً مستقلاً ومتميزاً في وجوده وحياته عن وجود الأفراد المكونين له، أو الممثلين له، وأنها تستهدف أغراضاً تتجاوز عمر جيل بذاته من أجيال شعبها، وهذه الأغراض تبقى على الرغم من زوال الأفراد وتغير الحكام، وتطور الشكل الدستوري، مما يجعلها حقيقة باقية مستمرة ودائمة.
رابعاً: خضوع الدولة للقانون
لم تعد الدولة المعاصرة، تلك الدولة الاستبدادية التي يختلط فيها القانون بإرادة الحاكم ومشيئته، وإنما هي أساساً دولة يسودها مبدأ سيادة القانون والشرعية، ومقتضى هذا المبدأ أن أعمال السلطات العامة في الدولة وقراراتها النهائية، على أي مستوى كانت من التدرج لا تكون صحيحة ولا منتجة لآثارها القانونية المقررة، في مواجهة المخاطبين لها، إلا بمقدار مطابقتها للقاعدة القانونية الأعلى التي تحكمها، وكذلك فإن إجراءات السلطات العامة، وأعمالها، وتصرفاتها كافة، لا تكون صحيحة، ولا منتجة لآثارها القانونية المقررة إلا بمقدار التزامها بما يقضي به القانون، فإن صدرت هذه أو تلك على غير مقتضى القانون الواجب التطبيق، فإنها تكون غير مشروعة، ويكون لذوي الشأن حق طلب إلغائها والتعويض عنها أمام المحاكم المختصة، ومن هنا كان استقلال القضاء ودعم هذا الاستقلال، من ألزم الضمانات لإقرار مبدأ سيادة القانون وتوكيده، وفي الحقيقة، فإن نقطة البدء في فهم الدولة القانونية وتصورها، تتمثل في قدرة التمييز بين فكرة السلطة السياسية pouvoir politique، والحكام governamts، فإذا كنا لا نحس بالسلطة في واقع حياتنا العملية إلا من خلال الحكام، وما يملكونه في مواجهتنا من قدرة الأمر والنهي، إلا أن هؤلاء الحكام لا يمارسون السلطة، بوصفها امتيازاً أو حقاً لهم، بل يظهرون في موقع السلطة من خلال وظائفهم، واختصاصاتهم المحددة لهم سلفاً في القانون، ويمثل الدستور قاعدة الأساس في هذا المجال، لأنه حين يحدد الاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العامة التي تعيش في ظلها أوجه النشاط الفردي والحكومي على السواء، وحين يعين الأشخاص والهيئات العامة التي يكون لها حق التصرف باسم الدولة في نطاق من هذه الاتجاهات العامة، فإنه يحدد طاعته فكرة القانون واجبة الاتباع التي يجب أن يلتزم بها الحكام إذا أرادوا لتصرفاتهم أن تكون مشروعة ونافذة.
مهند نوح