المرأة بين حركية الواقع وتحجر الفقه

إن الاحتفال باليوم العالمي للمرأة ــ كمناسبة كونية تهم نساء العالم ــ ينبغي أن يكون مناسبة ، ليس فقط لرصد ما تحقق من مكتسبات لصالح المرأة بفعل النضالات الحقوقية ، بل أيضا وأساسا الوقوف عند التيارات التي تتهدد المرأة في حقوقها كما في إنسانيتها وكرامتها . إذ بالقدر الذي تطمح فيه المرأة إلى انتزاع حقوق أخرى ترقى بها إلى عتبة المساواة مع الرجال وتخرجها من وضعية الدونية والتبعية ، تتصدى جهات باسم الدين والشرع لحجز هذه الديناميكية التي أطلقتها المنظمات الحقوقية وشطب ما تحقق من مكتسبات . ولا يكاد يخلو بلد عربي من هذه الأصوات المتلبسة بالدين والمحرّفة لأحكامه بعد أن أعوزتها الحجة وتجاوزها الواقع . إن هذه الأصوات ، ورغم تعدد زوايا استهدافها للمرأة ، إلا أنها تحمل نفس القناعة وتضمر نفس العداء وتستعمل نفس الأسلحة . إنه تيار البدونة الزاحف على مجتمعاتنا والمتربص بمسارها التنموي/التحديثي ليلقي بها في غياهب التخلف المركّب ــ حقوقيا ، فكريا ، حضاريا ، قيميا ، علميا الخ ــ ويحصرها في بؤرة زمنية جبّها الإسلام وطواها النسيان وقطعت معها البشرية ؛ مما يجعل المرأة تعيش هذه المفارقة الصارخة التي تتجسد في واقع ديناميكي يتفاعل مع ما راكمته البشرية من تجارب ومكتسبات في مجال الحقوق والقيم والآفاق التي تفتحها أمام المرأة ، وذهنيات تعيش خارج التاريخ وترفض الإقرار بحركية المجتمعات وديناميكية الشعوب . ولا شك أن خطورة هذه الأصوات تكمن ليس في نعيقها أو ما تتسربل به من فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان ، وإنما خطورتها تكمن في صمت التيار المتنور من الفقهاء الذين فضلوا الانزواء عن المواجهة والجهر بالحق ، من جهة ، ومن أخرى ، تَردُّد الطبقة السياسية الحاكمة في أخذ المبادرة بإحداث إصلاحات جوهرية في مجال حقوق الإنسان ، وضمنها حقوق المرأة ، حتى تصير واقعا مألوفا يلمس المواطنون مزاياها . علما أن فتاوى تيار البدونة تستهدف الدولة والمجتمع والحكام على السواء . وفي هذا الإطار ينبغي التنويه بمبادرة الملك محمد السادس بإدخال تغييرات جوهرية على مدونة الأسرة وكذا تثمين أحكام القضاء المغربي بإغلاق دون التشدد والبدونة التابعة للمغراوي بعد متابعة هذا الأخير عقب فتواه بتزويج بنت التسع سنين . ولعل هذا هو السبيل الأمثل لوقف مد الوهبنة والوبدونة . ومن أخطر الفتاوى التي نفثها أعداء المرأة ومناوئو القيم الإنسانية نقرأ التالي :
1 ـ فتوى قتل كل من يستحل الاختلاط . وهي آخر ما جاد به تيار البدونة في السعودية على لسان الشيخ عبد الرحمن البراك في فتواه التي جاء فيها : "الاختلاط بين الرجال والنساء في ميادين العمل والتعليم ـ وهو المنشود للعصرانيين ـ حرام لأنه يتضمن النظر الحرام والتبرج الحرام والسفور الحرام والخلوة الحرام والكلام الحرام بين الرجال والنساء". ليؤسس على هذا أن "من استحل هذا الاختلاط وان أدى إلى هذه المحرمات فهو مستحل لهذه المحرمات ومن استحلها فهو كافر. ومعنى ذلك أنه يصير مرتدا فيُعرَّف وتقام الحجة عليه فإن رجع وإلا وجب قتله. والأصل في ذلك أن من جحد معلوما من دين الإسلام بالضرورة كفر لأنه مكذب أو غير ملتزم بأحكام الشريعة". إن فتوى البراك هذه لا تستهدف فقط التيار الإصلاحي في السعودية الذي يناضل من أجل إقرار إصلاحات سياسية وحقوقية ، بل تستهدف مباشرة القيادة السياسية في السعودية وعلى رأسها الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي يخوض ثورة هادئة ضد القوى الدينية والاجتماعية التي تناهض كل المبادرات الإصلاحية التي اتخذها ، وفي مقدمتها إحداث جامعة الملك عبد الله (كاوست) التي تعد أكبر صرح علمي في المملكة والعالم العربي وفتحها في وجه الطلاب من الجنسين دون أن تشملها فتاوى تحريم الاختلاط أو قوانين منع سياقة السيارة على المرأة .
2 ـ فتوى تحريم التصويت لفائدة النساء المرشحات لعضوية البرلمان . وهي الفتوى التي أصدرها المكتب الشرعي للحركة السلفية بالكويت في شهر مايو 2009 . وقد فسر فهيد الهيلم ، وهو عضو المكتب السياسي للحركة السلفية ، دوافع هذه الفتوى كالتالي " أن المكتب الشرعي للحركة انطلاقاً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" ارتأى أن هذا الأمر "ينطبق على ترشح الأخوات الفاضلات لمجلس الأمة، حيث إن عملية التصويت لهن تجعل من المحتمل وصول إحداهن لعضوية مجلس الأمة الكويتية .. ما هو محرم غاية محرم أيضاً وسيلة ، فوسيلة عضوية البرلمان المحرمة بالنسبة للنساء التصويت، وبالتالي فإن التصويت للمرأة لا يجوز، ونخشى أن يأثم الناخب الكويتي إن صوت للمرأة".
3 ـ فتوى تحريم زواج المسلمة من كتابي . وهي الفتوى التي أعاد الفقهاء التشديد عليها بعد أن أصدر الدكتور حسن الترابي فتوى يجيز بها هذا الزواج . وكان الشيخ القرضاوي أبرز مهاجمي الترابي حيث صرح لجريدة «الشرق الأوسط» ( إننا نرفض هذه الفتوى، لأنها ضد إجماع الأمة وأن جميع المذاهب الإسلامية السنية والشيعية والزيدية، سواء المتبوع منها أو المنقرض، تستنكر هذه الفتوى وتؤكد مخالفتها للشرع الإسلامي، لأن كل اتباع في هذه المذاهب متصل بالعمل. وأضاف د. القرضاوي: لا يجوز شرعا أن تتزوج المرأة المسلمة ابتداء من رجل كتابي (يهوديا كان أم مسيحيا)، لان تحريم زواج المرأة المسلمة من رجل كتابي من الأمور التي استقر عليها الإسلام، منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان). بينما الدكتور الترابي أسس لفتواه التي تجيز هذا الزواج كالتالي ( زواج المسلمة من كتابى جائز شرعا بنص الآية الكريمة (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) المائدة : آية 5 ) .
كل هذه الفتاوى وغيرها ناتجة عن ذهنية تحجرت منذ مئات السنين وباتت تعيش غربة أهل الكهف في عصر العولمة والانفتاح والثورات العلمية والحقوقية . فالواقع الاجتماعي والسياسي أفرز متغيرات هامة تفرض تجديد الفقه الإسلامي بما يستوعب هذه الوقائع المتجددة ويجاري حركية المجتمعات. وإذا ما تم التغاضي عن الأصوات الناعقة بما يشذ عن الدين ويحجر على المرأة ، فإن نموذج الطالبان على الأبواب . فما أشد الأخطار التي تتهدد مجتمعاتنا إذا ما تغلغل تيار البدونة في ثنايا المجتمع ومفاصل الدولة !!


سعيد الكحل